أمجد عرار

تسعة وعشرون إنساناً تشظّت أجسادهم وتسعون إنساناً جُرحوا في كركوك العراق بثلاثة تفجيرات خلال بضع دقائق . لكنّه خبر في المرتبة الرابعة أو الخامسة من جدول الاهتمام الإعلامي المشغول في مهمات أهم على الأجندة، وقضية في المرتبة الصفرية في أذهان بعض العرب الذين يفضّلون تغييب هذا الموضوع وإلقاءه في غياهب النسيان وإبقاءه حصراً قضية أمريكية داخلية . فالحدث العراقي أصبح شيئاً عادياً، والإنسان العراقي يحتل جداول الإحصاءات كرقم يؤشّر إلى منسوب الأمن وقائمة الإنجاز لهذا الطرف أو ذاك في بورصة المزايدات ونوايا تأبيد الاحتلال . الدم العراقي تحوّل إلى ماء، لا والله، فالماء قد يشعل حرباً بين دولتين إذا تعرّضت وفرته إلى التهديد .


إن بلاداً لا تتحرك دورتها الدموية لشلالات دماء أبنائها، لا تحتاج إلى ميزانيات للجيش والأسلحة، بل إلى مدارس في احترام الذات، ومحاكم على شاكلة محكمة يابانية عقدت أول جلسة في التاريخ الإنساني لمحاكمة قاتل قطّة . فمن يكتب هذه الرسائل الدموية، ولمن يريد أن يوصلها؟ يبدو الأمر مرعباً عندما تحدث التفجيرات وعمليات القتل والاغتيال في مناطق التعدد العرقي والطائفي مثل كركوك التي يعيش فيها حوالي 900 ألف نسمة يمثّلون معظم أطياف المجتمع العراقي، حيث التحديات والمشاكل المختلفة وأبرزها صراع على السلطة . مثل هذه الأفعال غامضة المصدر والمبنية للمجهول، تخرجنا عن مسار الطريق وتضعنا وسط دوامة شاسعة مظلمة من التوهان والضياع، وفي غابة من الأصابع المتقابلة كل منها يؤشّر للآخر متّهماً . وفي الأجواء المشحونة طائفياً وعرقياً لا يعرف الناس من العلم غير قانون ldquo;الفعل ورد الفعلrdquo; بعد أن ينزعوا منه ldquo;مساوياً له في المقدارrdquo;، فإن قُتل عشرون من هؤلاء، يجب أن يردوا بقتل أربعين من أولئك، حتى يبقى ldquo;قانون الثأرrdquo; على قيد الحياة في موسوعة عاداتنا الموروثة جيلاً بعد جيل .


لكن الأخطر ألا يكون هؤلاء هم من قام بالفعل، وكل ما في الأمر أن يداً خبيثة هي صاحبة المعادلة كلها القتل هنا والقتل هناك، والمشاركة في الجنازتين . هنا تزداد المعادلة تعقيداً وتشابكاً، خاصة عندما يتعلق الأمر بشعب تحت الاحتلال، وحكومته جزء من إفرازاته، بحيث يبقى الأمن والقانون والإعلام بيد واحدة ووفق المصالح التي تخدم كل الأطراف باستثناء الشعب، ذلك أن مثلاً شعبياً يقول إن ldquo;من تكون المغرفة في يده لا يجوعrdquo; .


التفجيرات هذه هي الأعنف منذ شهرين، وهي تأتي قبل أشهر قليلة من الانسحاب المقرر لقوات الاحتلال الأمريكي من العراق وفقاً لاتفاقية موقعة مع الحكومة المحلية . ولا نستطيع أن نتجاهل الآراء التي ترجّح أن يكون الحديث الأمريكي عن انسحاب متدرّج، مجرّد مناورات بين الحين والآخر، خاصة إذا أخذنا في الاعتبار، تصريحات عديد من المسؤولين الأمريكيين عن ضرورة إبقاء وجود عسكري ldquo;ماrdquo; في بلاد الرافدين .


كان يمكن للنقاش حول جدوى ومشروعية احتلال دولة عظمى دولة أو دولاً أخرى، أن يحرج ldquo;ساخني الرؤوسrdquo; الذين يرفضون الاحتلال من حيث المبدأ، في حال حقق هذا الاحتلال حرية حقيقية وديمقراطية وأماناً للناس، أما أن يزول كل شيء جميل من البلد ولا يبقى سوى الاحتلال، فإن الجدل سيبقى سيد الموقف، ولا ينتهي إلا بطرد المحتل .