محمد الرميحي

كلمة المدللين ليست من عندي، هي التعليق الذي أبدعه المذيع على قناة laquo;سكايraquo; البريطانية صبيحة الخميس الماضي بعد أقل من أربع وعشرين ساعة من الحدث السياسي الأهم في الكويت وهو الاشتباك بالأيدي بين بعض أعضاء مجلس الأمة الكويتي، قال بالنص: الأطفال المدللون، spoiled children، وهو مصطلح مفتاحي، إن استخدمنا علم الدلالة اللغوية، يحمل درجة قاسية من الاستهزاء، وربما يشير إلى أن العالم من حول الكويت منشغل بتغيرات فريدة من نوعها من أجل الديمقراطية، وتنتهك الممارسة بهكذا سلوك في إحدى الواحات القليلة التي تحظى بهامش معقول منها.
لا أريد في هذا المقال أن أكون قاضيا، وأحدد من أخطأ ومن أصاب فيما سمي صحافيا بجلسة الملاكمة، فذلك يعود إلى مؤسسة المجلس نفسه، التي يطالبها الجميع بأن تبحث في الموضوع بجدية وحيادية، وتقول للكويتيين وكل من تابع الحدث لماذا حدث ما حدث؟ ومن المتسبب به؟ وما هي الضمانات أن لا يتكرر؟
ما أريد طرحه هنا هو تفسير الظاهرة / المشاجرة التي أصبحت الخميس الماضي تتصدر صورها الصفحات الأولى معظم الصحف العالمية، والتي علقت عليها معظم وسائل الإعلام الدولية. آخر مشادة في ندوة برلمانية عربية كانت في البرلمان اللبناني، ومتى؟ قبل الحرب الأهلية الضروس بشهر فقط، عندما قام أحدهم بالاعتداء على رئيس الوزراء، وقتها رشيد الصلح، وكانت الأجواء تنذر بمخاطر ما لبث أن دخل اللبنانيون حربا أهلية شعواء قتلت الحرث والنسل. وحسب المصادر الموثوقة خلفت تلك الحرب 144 ألف قتيل و197 ألف جريح و17 ألف مفقود فقط لا غير! لا أريد من هذه المقارنة أن أقول إن هذا ما يمكن أن يحدث في الكويت، ولكن بالتأكيد أريد أن ألفت النظر بشدة إلى أن laquo;معظم النار من مستصغر الشررraquo;، وأن السكوت عن التعديات الصغيرة السابقة والإهانات وخشونة القول قد أدى في النهاية إلى جلسة الملاكمة، وأن ما حدث هو نتيجة لاحتقان حقيقي في المجتمع الكويتي إن لم يتدخل العقلاء بحزمة من الإجراءات، يمكن أن يأخذنا إلى دهاليز الاشتباك الأهلي طويل المدى.
القراءة الأكثر عمقا أن جلسة الملاكمة تنم عن شق في المجتمع الكويتي قد يزداد ويتسع، وتراكم احتقاني لا تنفع في تخفيفه الكلمات الطيبة، بل يحتاج إلى سياسات مجتمعية وتشريعات حديثة. فممارسة الديمقراطية من بابها المتعصب، الذي يأخذ بالجهل بدلا من الحلم، والاستقطاب بديلا للتوافق ويعلي الطائفية والقبلية والمناطقية، ليست فقط فهما مغلوطا للممارسة الديمقراطية، بل هي أداة فعاله للتناحر الاجتماعي. وقد تبين للجميع أن نصف قرن من الممارسة الديمقراطية لم يعزز منهجا ثقافيا لاحترام التعددية وتقبل وجهات النظر المخالفة، وهذا ما تفرزه الديمقراطيات عادة، بل أخرجت أسوأ ما في النفس الإنسانية، التشاجر باليد والقول الفاحش وتبادل اللكمات، حتى في المجتمع المدني الكويتي والديوانيات المنتشرة في طول الكويت وعرضها لم يسجل تاريخيا استخدام العنف بالذراع، وكان كل ما يقابل به الجهر بالسوء، الاستهجان الصامت.
اللحظة التاريخية العربية لحظة تغير شديد، لا يحتاج المراقب أن يؤكدها، فالمواطن العربي في أكثر من مكان يحاول جاهدا تفكيك النظام القديم لبناء نظام جديد، قائم على المشاركة وقبول التعددية. كان المأمول أن تكون التجربة الكويتية هي الملاذ للكويتيين مما يحدث حولهم، حيث تعمل المؤسسات على تفادي الأخطار ما أمكن عن طريق الحوار العقلاني. الكويتيون قدماء في اعتناق التطور الديمقراطي الذي أمل المؤسسون أن ينقل المجتمع من حالة القبلية والطائفية إلى حالة الدولة، وينقل المواطن من حالة الرعية إلى حالة المواطنة، ومن مجتمع الطاعة للأشخاص إلى مجتمع الطاعة للنظام، الذي يشترك الجميع في إقامته. ما يقارب من نصف قرن من الممارسة السياسية التي تتعثر لتقف من جديد على رجليها من المفروض أن تتقدم إلى الأفضل، تستعيض عن الجدل بالعمل.
بعد تحرير البلد الذي أعقب مأساة الاحتلال التي مر بها المجتمع الكويتي، تبنى أهل الكويت العمل على الانكفاء لبناء وطنهم تحت خطاب جديد، هو أن الكل مواطن والأفضلية لمن يعمل بجد من أجل المجتمع. إلا أن كل المسيرة حتى الآن تعثرت في تعظيم قيم المواطنة، والمواطنة هي التعبير القانوني والسياسي المعبر عن تساوي المواطنين في الحقوق والواجبات، هذا ما ترنو إليه الدولة الحديثة وتحبذه الشريحة الأوسع في الكويت. قيم المواطنة لم تترسخ بسبب الأهواء السياسية التي استخدمت آلية الديمقراطية في ترسيخ الانتماءات الفرعية ما دون الدولة. لقد تقاعست التجربة الطويلة عن تحقيق منظومة متسقة لضمان قيم المواطنة وتوشك فكرة المواطنة إلى الانتكاس، وهذا ما أرسل قشعريرة في البدن الكويتي جراء ما شاهدوه من أفعال في جلسة الملاكمة، وما استوجبه من شجب.
وحتى أضرب مثالا لأهمية المواطنة أذكر قضية زكريا موسوي المعروفة، وهو مواطن فرنسي من أصل مغربي اتهم بالإرهاب في أميركا. كونه فرنسيا لم تتقاعس الحكومة الفرنسية من بذل جهدها لمتابعة قضيته وخصصت له لجنة في وزارة الخارجية لمتابعة الموضوع، ولما أثير الموضوع في البرلمان الفرنسي على أن هناك مصاريف باهظة دفعت من أجل قضية إرهابي، كان رد الدولة الفرنسية أنها قيم الجمهورية، فهو مواطن فرنسي يستحق كل الدعم الذي تقدمه الدولة لأي مواطن في محنة، حتى لو كان متهما بالإرهاب! أي أن هناك منظومة قانونية وليست شخصية وهناك قيم سياسية يجب التمسك بها. المواطنة في مجتمعاتنا شخصانية إلى العظم، وليست عامة ومشتركة. لذلك يعتبر البعض أن شخصا أو أشخاصا في محنة هم في الأول والآخر مواطنون وجب الدفاع عنهم، ويتخلى البعض عن المواطن في أول أزمة. هي إذن قيم لم تترسخ للمواطنة، رغم نصوص الدستور، وكل هذا التاريخ من التجربة الطويلة.
ما يحدث في الثورات العربية من تونس إلى سوريا وما بينهما وما يليهما سببه التخلي عن فكرة المواطنة، وتحقير الناس على أنهم رعايا تابعون يحق قتلهم أو سجنهم في أي وقت دون مسوغ من قانون، فكيف للكويت إذن أن تسير معاكسة لكل هذا التيار العربي الذي يسير حثيثا إلى فكرة المواطنة وفكرة المشاركة واحترام التعددية.
من هنا جاء الشجب والاستنكار للذين أهانوا الممارسة الديمقراطية وطموحات الناس، بإبدال الكلمات باللكمات.