عبد السلام بن عبد العزيز اليمني

تحتشد بالقلب آهات عربية، مشرقية ومغربية أوسطية وصحراوية، الأيام العربية متداخلة الأحداث والمعاني، متشابهة الوقائع والنوايا، والشاطئ العربي مهما طاب ملمسه وعر وصخري متقلب المزاج حسب اتجاهات صكوك الملكية.

يتونس العربي بالعربي تارةً، ويشك فيه تارة أخرى، وينتهي المطاف بتخوينه، وتدور عليه دائرة البعد والمنع والقطع، ويقتفى أثر الحرمان متسكعاً في شوارع مدن أوربية وربما خطيباً في أحَدِيّة الهايد بارك.

إنفصام التداخل في القضايا العربية مشابهاً لعصور الظلام التي عاشتها أوربا في القرن التاسع عشر، الفوضى هي العنوان والفساد عدو لدود للعدالة الاجتماعية، أصداء المواعظ العالية في كل مكان، والنكاية بها في الفعل والممارسة تحجب الرؤية عن النقطة الفاصلة بين الخير والشر، فكان الاشتهاء المحرم هو عنوان تلك المرحلة المظلمة ولاتزال تستهوي القلب العربي إلى يومنا هذا!.

هبوب الإعصار العربي في الربيع تَفَجّر من أرق الليل وقلق النهار، والمواضع والمدن العربية مُوغلة في الفوضى ومن العجب أنها ظلت هادئة في نسيج إعلام عربي رسمي تمسح بوضوء الاستقبال والتوديع وأناشيد تمجيد الذات والمنجزات، وكأن الذي في داخله ومن حوله لا يهمه ولا يعنيه؟!
أحلام جيل جديد تتوالي، والقلوب مضطربة، والزي الدمشقي يقاوم لإعادة هيبة التاريخ، يواجه بغباء سياسي يزداد بالوهم يقيناً بأنه أفضل من غيره في الواقع والمواجهة، حتى لو أريق دم يراه العالم زكياً، والحاكم يراه فاسداً خرج من جسد معارض وقع في المحظور لأن التغيير كَفّارة ينطق بها الحاكم متى أراد وكيفما شاء، وليست هماً وطنياً يشعر به الجميع وينادي به العامة والدهاء كما يُعَرّفُون في الدساتير العربية!.

في يَمنِ التاريخ السعيد والحاضر المتخلف لامست الثورة كل شبر من أرجائه، بحت أصوات جيل جديد خرج من الجامعات والمعاهد والمدارس ينادي بالتغيير من أجل التنمية والتطوير والخلاص من تركيبة قبلية جَذّرت للفساد وعطلت مصالح البلاد والعباد، تغلغت المبادرات لأحضان الفرقاء، اتفقوا ثم اختلفوا، شارفوا على التوقيع ثم افترقوا، شد وجذب، إقتراب ثم ابتعاد، أصوات وهمسات أوراق وأقلام، وقلب ذاك الرئيس لن يَرِقْ مادامت الكَفّارة لم يحن وقتها بعد، فكيف تكون وهو الذي ظل ثلاثون عاماً مانحاً ومتفضلاً وواهباً، ثم تأتي العامة والدهماء تفرض عليه مالا يهواه ولم يتكرم به، هو يريدها كفارة حكم ليظل اسمه خالداً ما دامت السموات والأرض، والثوار سيحرقون هذه المرحلة بكشف المستور المظلم؛ ولو وُجّه لفخامته سؤالاً عن تأخره بتقديم الكفارة، سيأتيك الجواب العربي المتفق عليه سياسياً، أن الشعب لم يكن جاهزاً، وعندما تناطحه بسؤال عن الفساد وغياب التنمية والعدالة الاجتماعية ستظهر لك الأسباب في الفقر والجهل وانتشار الأمية، وبعد أن يثور السؤال المنطقي عن المتسبب سَيُرد عليك بانغماس الناس في ملذات قيلولة القات، وعندما تدفعه لمشاركتك في البحث عن تهاون الحكومة في تبصير الناس بأخطاره ومضاره الاجتماعية والاقتصادية، وغياب حوافز الدولة لاستبدال الأدنى بالذي هو خير، ربما يتحداك ويتحدى العالم كله في تخليص الشعب من هذه الآفة ولن تصل معه إلى حل، وربما تحتاج إلى مبادرة للصلح وإعادة الثقة بينك وبين فخامة الرئيس؟!

quot; لا رئاسة مدى الحياة quot; و quot; ما كنت أنتوي الترشح لفترة رئاسية جديدة quot; تلكما كانتا الكفارتبن المتأخرتين اللتين نطق بهما الرئيسان المخلوعان، زين العابدين بن علي، وحسني مبارك، بعد فوات الأوان، وبعد أن طار الثوار بأرزاق الحكم في تونس ومصر، ومهما حدث فإنه يحسب لهما مقارنةً بغيرهما من رؤساء الدول العربية الثائرة، هروبهما وتخليهما عن الحكم في وقت مبكر قبل حدوث الكارثة الكبرى ببلديهما.

أقف ومعي الملايين حول العالم مشدوهين أمام صور واقع الشعب الليبي وما يعانيه من الفقر والعوز؛ إنكشف الغطاء عن حقيقة الدولة الثرية بتاريخها النضالي بزعامة شيخها المقدام عمر المختار ورموز آخرين عطروا سيرتهم بالبطولة والكرامة والشهامة والتضحية، ليبيا الغنية بموارد طبيعية يمكن أن تضعها في مصاف دول متقدمة، عكست لنا الصور المشاهدة لمدنها وضواحيها بدائية التخطيط وعشوائية البناء وهشاشة بنيتها الصحية والتعليمية والاجتماعية والاقتصادية.

أكثر من أربعين عاماً على حكم العقيد، والفشل يلاحقه على المستويين الداخلي والخارجي، عندما أخبروه أن الشعب تحرك في بنغازي ثائراً قال: إقرؤا عليهم كتابيه إنني ظننت أن هناك عقولاً بالكتاب الأخضر عاصية، قولوا لهم إما سبيل الرشاد لمعمر وإلا ستكون عليهم القاضية، تلك كانت رسالة العقيد في أيام الثورة الأولى، والشعب الليبي لا يتذكر من فترة حكمه الطويلة إلا تخبطات وهرطقات سياسية وفكرية تحوم زَبدٌ حوله ذهبت جفاءً ولم يسكن في باطن الأرض منها أي شيء.

بالرغم من هذه التجربة المريرة لا تزال كَفّارة العقيد عصيةَ على عقله وقلبه، وشهوانية الحكم متربعةً في تفكيره، يتلذذ بنسج الوقائع في خياله ويريد فقط هو دون سواء أن ينهيها وقتما يشاء وبالكيفية التي يريدها، وفي واقع العقيد القذافي الذي بلغ من الكبر عتيا، لا يوجد في قاموسه شيء أسمه كَفّارة والدليل القاطع تضحيته بشعب هو يَدّعي أنهم أهله ووطن يزعم فداءه بالروح والدم.

الزمن المباح الذي عاشته الدول العربية طويلاً طوّع قواميسها لنظريات بائدة، وثقافتها لجدال ورقي، ومواعظها لخلافات قبلية ومذهبية، وسكاكين قطعت الرباط بينهم، وكَفّارة الحاكم إن حضرت بعد الملل وربما التقرب لطاعة الله هي رصاصة رحمة في السياسة والتنمية والاقتصاد... وما يفيض للفقراء عن خاطره!