مصطفى الغزاوي

رسم الفنان مصطفى حسين كاريكاتير في جريدة الأخبار المصرية، لطائرة تطير في سماء القاهرة فوق مبنى مجلس الشعب ومواطن مصري يقول quot;يا كابتن أنا لو قفزت دلوقت على مجلس الشعب حتنكسر رقبتي... شوف لي quot;دستور باراشوتquot; أقدر أنزل بيه سليمquot;. فيولد تعبيرا وصفيا جديدا للحالة في مصر quot;الدستور الباراشوتquot;، وهو يوصف به الصراع بين لجنة الإخوان المسلمين quot;البشري سابقاquot;، والمطالبات الدستورية الأخرى والمتداولة على استحياء والتي تستخدم ذات منهج الإخوان في الإقصاء، بل تكاد الفتنة الدستورية تصل مداها في صورة مواجهة بين من يقولون إنهم الدينيون وغير الدينيين، وأصبحت الدولة المدنية، والتي تعني دولة الدستور والقانون، هي دولة إقصاء الدين، ونسي الجميع الأبعاد السياسية والاجتماعية والاقتصادية للثورة.
وبلغ الأمر بالمحامي الإخواني صبحي صالح أن يقول وبكل وضوح في مواجهة الشعب المصري: quot;نحن كجماعة لا نعترف بمفاهيم مسلم ليبرالي ومسلم علماني ومسلم يساري، نحن لا نعرف إلا مسلم يكفيه دينه عما سواه من المناهجquot;.، ويفتح بهذا القول مرحلة اقتتال واشتباك جديد ينحرف بالثورة والمجتمع انحراف فتنة الجاهلية، وفقط نقول: من فوضك في الحكم على المصريين ومنح شهادات بالإسلام أو منعها؟ ولجنة البشري تصمت عن جريمتها المركبة وهي صبحي صالح والتعديلات التي اقترحتها اللجنة.
ومن جهة أخرى دعا المفكر الإسلامي الدكتور محمد سليم العوا المواطنين للخروج في مظاهرات مليونية إذا تأخر إجراء الانتخابات يوماً واحداً، محذراً من quot;أن هناك من يريد الالتفاف على نتائج الاستفتاء على التعديلات الدستورية لأنها لا تصب في مصلحتهquot;، أي أن هناك مصالح متعارضة قي الإعلان الدستوري وعليه فالفقيه القانوني والمفكر الإسلامي ينحاز لمصلحة دون أخرى وهو ما يمثل إدانة للتعديلات ذاتها!! وحول ما يثار بشأن دفاعه عن عدد من رموز النظام قال laquo;العواraquo;: quot;أدافع عن رجلي أعمال فقط لإيماني بأن الحكومة استفادت منهما وضحكت عليهماquot;، ولم يكشف عن موقفه من الشعب الذي استغلته الحكومة ورجال الأعمال، وها هو الرجل يجمع بين الحسنيين، أموال رجال الأعمال، وتعديل دستوري ينحاز لمصلحته.
هكذا الكاريكاتير بعين الصقر ومن خارج الصندوق يرى أن الدستور أصبح وسيلة انقضاض على المجلس النيابي، بينما جماعة quot;لجنة البشريquot; ومن حولها تخشى ألا يستكمل الانقضاض أهدافه، ويتخذون من الدين غطاء. والمجلس العسكري وبعين النملة يغرق في تبريرات الالتزام بالإعلان الدستوري الذي التزم بخيارات quot;البشري ولجنتهquot;، ويأبى إلا أن تحدث انتخابات تشريعية في سبتمبر، معاندا الواقع والحقيقة كرجل أراد أن يغيظ وجهه فقطع أنفه.
الأهل تعني قرابة الدم، وأخص الناس بالشخص، وهو تعبير ينم عن التآلف والانتماء بين الجماعة، مرادف للعشيرة، هو التعبير الذي استخدمه شركاء أيام وليالي ومعارك الثورة المصرية لتحديد طبيعة العلاقة بينهم، فبعد أن اقتسموا كسرة الخبز ـ وأعني ما أقول... كسرة الخبز ــ أيام الحصار، ها هم ينقلون العلاقة إلى زمن ما بعد الحصار داخل الميدان، ويتكاتفون وتلتئم لحمتهم دفاعا وحماية لأي منهم إن تعرض لأزمة ما. وشاءت الظروف أن أذهب إلى حيث مكان النيابة العسكرية يوم نظر قضية بعض ممن كانوا يتظاهرون أمام السفارة الإسرائيلية، من بالداخل لديهم قصصهم، ومن بالخارج والشمس تحرق جلودهم لديهم دموعهم وتشتتهم وعدم الدراية بالتعامل مع الأماكن العسكرية، وعلى هؤلاء جميعا يعيش بعض عناصر أمن الدولة بين الرصد والمتابعة، وفي مشهد مكمل للصورة يخرج رئيس تحرير جريدة الشروق الذي كان مستدعى للتحقيق أمام النيابة واثنين من الصحفيين لنشر خبر عن رسالة quot;طلب السماحquot; من الرئيس المخلوع، بعد توقيع على تعهد ما؟
مصر الثورة تمثل أمام النيابة العسكرية، ولا أحد يراعي أن شباب الوطن، خرجوا وأطاحوا بنظام فاسد وكأنهم يعاقبون على فعلتهم. وإعلام مصر أيضاً أمام النيابة العسكرية، بينما الأنباء تتردد عن الإفراج المتتالي عن رموز النظام السابق، ويعقبها إلغاء للإفراج، حالة من التأرجح مبررها الوحيد أنهم يحاكمون بقوانين صاغها النظام السابق، وأن المحاكمات تدور حول الفساد المالي، ولم يقترب أحد من الإفساد السياسي بعد وكأنها ليست ثورة شعب من أجل الحرية والكرامة والعدل، ولكنها تجريدة دائنين على جماعة القراصنة، انقلاب بالثورة وعليها للتخلص من المسؤوليات التي تفرضها.
هكذا يبدو الحال الآن في مصر، الثورة في مفترق طرق، والبعض اعتقد أن مكاسبه نتيجة الثورة تمنحه حق المنح والمنع للشعب، والبعض الآخر يحاول أن يحول نتائج الثورة لصالحه حتى وإن غامر بمستقبل الوطن. وتبلغ صورة العناد حدا مزريا بالحديث المتتالي أن المجلس النيابي القادم سيختار لجنة من 100 عضو لوضع الدستور، إجراء أقل ما يوصف به هو الجهل بطبيعة الدستور ومسؤولية وضعه كعقد اجتماعي بين الشعب، وأن هذا الإجراء أقرب إلى الخيانة الوطنية ممن لا يملكون حق التقرير في شأنه ولكنهم اغتصبوا هذا الحق بحلف أسود بينهم وبين جماعة الإخوان التي لا يمكن وصف ما تفعل غير أنه انقلاب على الشعب والثورة.
كل هذه المشاهد تفرض الحرص على حماية نتائج الثورة، من الطبيعي أن تظهر قوى مضادة للثورة، ولكن من غير الطبيعي أن تختفي قوى الثورة. وأخطر من القوى المضادة للثورة.
حالة القوى السياسية ومرشحي الرئاسة التي وصلت إلى حد التلاسن والانشغال عن قضايا الوطن والصراع على التورته المسممة، وهذا كله ليس من طبائع الشعوب الثائرة ولكنه من سمات المنافقين والانتهازيين. وبلغ النداء إلى مليونية يوم الحرية 27 مايو لفرز القوى الحقيقية.
وضع الدستور المصري ليس محطة وصول ولكنه رحلة ممتدة بطول الوطن وعرضه وعمقه:
1. فالمنوط به وضع الدستور هو الشعب، بواسطة جمعية تأسيسية تمثل كل قواه الاجتماعية والسياسية في تجمع مناظر للمؤتمر الوطني القوى الشعبية الذي اجتمع في أول الستينيات، ومثل مصر كلها، وليس مجرد تمثيل نيابي عبر الدوائر الانتخابية وما تحمله الدوائر من عصبيات وانحرافات في التعبير عن الرأي باستغلال الاحتياج الاقتصادي للشعب.
2. والدستور يسبقه خيار اقتصادي ورؤية لمعادلة التنمية والنظام الاقتصادي والعدالة الاجتماعية، ولعل كتابات الأساتذة زياد بهاء الدين، ووائل جمال، وإبراهيم العيسوي، وأحمد النجار في المسألة الاقتصادية تفرض علينا الالتئام في مؤتمر اقتصادي يبحث القضايا الاقتصادية، وعدم الركون إلى تصريحات رئيس حكومة تسيير الأعمال عن الخيار الاقتصادي، فهذا أمر لا تقرره تصريحات، ولكن تقرره رؤى ودراسات وإحصاءات وإمكانات وظروف داخلية وعالمية.
3. ويسبق الدستور حوار مجتمعي حول مباشرة الحقوق السياسية، تلك التي يجري التعامل معها بقوانين الصدمة، فقانون الأحزاب مشكلة، وقانون الصحافة مشكلة، والتصويت يترنح بين المنح والمنع، والحاجة إلى ربط المصريين بالخارج بوطنهم عبر الإدلاء بأصواتهم، والذي تتراوح فيه الآراء بين المنح والمنع. وغير هذا فإن الحقوق السياسية مرتبطة أيضاً بحالة الإفساد التي جرت طوال 30 عاما مضت، فمن الذين يجب تجميد ممارستهم للعمل السياسي؟ ومن الذين يجب ضمان حقهم وتوفير فرص التعبير عن إراداتهم، وما يدور من حول انتخابات النقابات، يؤكد أننا في حاجة للمشاركة وليس الإقصاء.
4. ويسبق الدستور حوار مجتمعي حول الأمن القومي، الداخلي والخارجي:
أ. مصر التي زرعت فيها عناصر النظام المنحل نصف مليون بلطجي، لخدمة أهداف ترويع المجتمع عند الحاجة، ومصر التي انتشرت فيها الأسلحة البيضاء كما تنتشر في رواندا وبوروندي، يظلل هذا الخطر كل فرص التنمية والبناء، وهو أمر يجب التعامل معه، والقضاء عليه، وبدون خطة أمنية وثقافية وبدون القضاء على البطالة، واستقرار الحالة الإعلامية والقضاء على الفساد والصور الانتهازية في المجتمع، لن يمكن القضاء على هذا الوجود السرطاني، فهم ليسوا محتلا أجنبيا، ولكنهم خلايا مشوهة لها ذات سمات خلايا المجتمع السليمة.
ب. والمجتمع يجب أن يتصدى لدور الشرطة داخله ومهمة إعادة بناء الجهاز، والتغافل عما يحدث من قيادات الجهاز يدلل أن الجهاز منقسم، بين أغلبية لا تريد العودة وفق أصول العمل الشرطي، وأقلية تسلم بدور للشرطة وفق حاجة المجتمع ولصالحه وفي الإطار القانوني لهذا الدور.
ج. والحوار يجب أن يربط بين القضاء وأمن المجتمع، والتصريحات بأن القضاء لم يطله الفساد تبدو كمن يدفن رأسه في الرمال ويعتقد أن لا أحد يراه، ولعل تصريح المستشار زكريا عبدالعزيز رئيس نادي القضاة السابق بأن الثورة لم تصل إلى القضاء يستدعي هذا الحوار.
د. والحديث عن الأمن الخارجي ومواجهة مصادر الخطر والنطاق الأمني المصري وارتباطه بنطاقاته العربية والإفريقية، وحدود النفوذ والتأثير، ومصادر المياه والأسواق، كل هذا يفرض حوارا مجتمعيا بديلا عن حالات التشرذم الواقعة داخل المجتمع والتي خلطت بين العدو والصديق، ولعلنا في هذا الصدد نحتاج إلى دراسة للقدرة العسكرية المصرية والتزامات تطويرها، ولعلنا نكتشف حاجتنا لنبيل العربي وزيرا للخارجية أكثر من الحاجة إليه أمينا لجامعة الحكومات العربية.
المجتمع في كل هذه المهام يجب أن يكون تحت مظلة تؤمن له حرية الحوار، ومن غير المقبول تكرار مقولة أن المجلس العسكري يريد العودة فورا إلى ثكناته، فالمطلوب منه أن يؤدي مسؤولياته، وليس المطلوب منه التزام ثكناته، ودون تحقيق كل ما سبق من حوار والوصول إلى دستور الشعب وبواسطة الشعب لن يستقر أمن ولن يتمكنوا من العودة إلى الثكنات.
مقصلة الثورة الفرنسية حافظت على اندفاع الثورة إلى الأمام، حتى أنها نالت من المفكرين والفلاسفة، ولكنها مثلت صمام عدم الرجوع، والبحث المصري الآن عن مقصلة مصرية، ليس بالضرورة أن تكون مهمتها فصل الرقاب عن الأجساد لضمان الحركة للأمام، ولكنها على الأقل تحول دون الارتداد، فكيف السبيل إليها؟