مارلين سلوم

تكلموا، أين أنتم، ألستم من أبناء هذا الوطن ومن الشعب أم أنكم كنتم تمثلون علينا طوال هذه السنوات وتدعون أنكم تحملون همومنا وأوجاعنا لتقدموها في قوالب درامية وكوميدية على الشاشة؟

هذه لغة الشارع السوري اليوم، والفنانون السوريون أمام امتحان صعب بسبب الأحداث التي تشهدها بلادهم، وهم منشقون بين صامت رغماً عنه أو طواعية خوفاً من أن تؤخذ عليه أي كلمة ينطق بها ويحاسب عليها لاحقاً من هذا الطرف أو ذاك، وبين ناطق باسم الإنسانية لينادي بفك الطوق عن أهالي درعا، وطرف ثالث ارتأى أن يحتمي ldquo;تحت سقف الوطنrdquo; ويحمل العصا من منتصفها، وفق بيان أصدرته مجموعة منهم كأول تحرك فني، لتنتقل القوائم السوداء التي شهدناها سابقاً في مصر إلى سوريا، وإنما هذه المرة تحت اسم ldquo;قائمة العارrdquo;، ولست أدري أي عار يقصدون .

ماذا على الفنان أن يفعل حين ينسلخ جلد الوطن عن جسده ويحترق نصف القلب وتخرج الجنازات في الشوارع وتلبس الأحياء الشعبية وrdquo;الأمنيةrdquo; السواد حداداً على أبناء وأطفال ورجال سقطوا في نفس المعركة وبنفس السلاح إنما لأهداف متباعدة؟

هل عليه أن يحمل كفنه بيده كما قالت الفنانة القديرة منى واصف وينزل وسط الناس ليكون منهم ومعهم؟ وهل عليه أن يحكّم ضميره ويتخذ الموقف الذي يرضيه بغض النظر عن المحسوبيات والمصالح ويقول كلمة الحق التي يراها صائبة وفق قناعاته الشخصية، ولا يحق لأحد محاسبته عليها، لأن لكل إنسان الحق في التفكير والتصرف بما يتناسب مع معتقداته ورؤاه؟ أم الأفضل أن يزيد الفنان من طبقات الماكياج على وجهه ويتحول إلى مهرج يخفي الألم بالضحك وrdquo;الاستغباءrdquo;، أو يلبس العباءة التي تناسب دوره الجديد ويقف على مسرح الحياة يردد ما يلقنه إياه ldquo;الملقنrdquo; من خلف الكواليس؟

الكل خائف مما يحصل اليوم في سوريا والكل حزين . لكن للأسف ليس الكل متضايق من ldquo;حرب التخوينrdquo; والإهانات التي يشنها البعض ضد الفنانين الذين اختاروا أن يقفوا إلى جانب أهل درعا والمطالبة بفك الحصار عنهم وإدخال المؤونة والعلاج إليهم رفقاً بالأطفال والمرضى . فالبيان الذي أصدرته مجموعة من الفنانين السوريين تحت عنوان ldquo;نداء عاجل للحكومة السورية من أجل أطفالناrdquo; ووصل عدد الموقعين إلى أكثر من 160 فناناً ومثقفاً من بينهم منى واصف، كندة علوش، يارا صبري، المخرجة رشا شربتجي، ماهر صليبي، الكاتبة ريما فليحان، الكاتبة يم مشهدي، السيناريست عدنان عودة، الكاتب الفارس الذهبي، والممثلة عزة البحرة وغيرهم، طالبوا فيه الحكومة السورية بإيقاف الحصار الغذائي والطبي المفروض على درعا وقراها، ومما ورد في البيان ldquo;إنّ الحصار أدى إلى نقص المواد التموينية والضرورية لاستمرار الحياة، وأثر سلباً في الأطفال الأبرياء الذين لا يمكن أن يكونوا مندسين في أي من العصابات أو المشاريع الفتنوية بكل أنواعها . . نحن نطالب بدخول إمدادات غذائية من مواد تموينية وأدوية وأغذية أطفال بإشراف وزارة الصحة السورية أو الهلال الأحمرrdquo; .

ليس الهدف من سرد أهم ما جاء في بيان الفنانين هو الدعوة للانضمام إليهم، بل لأن ما ورد فيه لا يمس سوى الجانب الإنساني ولا يخرج عن إطار اللياقة والاحترام في المخاطبة والحق المشروع في المطالبة بالحقوق الإنسانية ldquo;الأوليةrdquo; .

واسمحوا لنا أن نستغرب مواقف بعض الفنانين الذين رفعوا شعارات كبيرة وتحريضية وrdquo;ثوريةrdquo; في أعمالهم، تأثر بها الناس وفئة كبيرة من الشباب وصدقوها وآمنوا بها وحفظوها، ويوم جاء موعد تطبيقها على الأرض، انفض الممثلون والمخرجون ووجد الناس الحقيقيون أنفسهم وحيدين في الميدان، وأن من قالوا لهم دافعوا عن كرامتكم كانوا مجرد أبواق فارغة ldquo;مثلت عليهم ببراعةrdquo; دور الشهيد والمواطن المعذب والضمير الحي والداعي إلى الوحدة العربية وإلى حرية الرأي والتعبير وإلى فك القيود وفتح السجون وعدم اعتقال المفكرين أو تهجيرهم من البلد .

أليس هذا ما ردده على مسامعنا مطولاً الفنان دريد لحام في مسرحيته ldquo;كاسك يا وطنrdquo;، وأبكانا وما زلنا نبكي على أحوالنا وعلى الظلم الواقع على بعض الشعوب العربية من قهر وقمع ومن فساد السلطات وبعض الحكام، وهو من ردد في المسرحية ldquo;مو ناقصنا غير شوية كرامةrdquo;؟ وهل دريد لحام ldquo;المدافع عن حقوق أطفال العالمrdquo; والذي اتخذ مواقف عدة من منظمة اليونسكو بسبب عدم ldquo;عدالتهاrdquo; في حق أطفال فلسطين المعذبين والجائعين والمحاصرين، ويشن حملات وبرامج توعوية تناشد بحق الأطفال في احترامهم إنسانياً ووجوب حمايتهم من الحروب والنزاعات؟ أم أن دريد الذي هاجم بيان زملائه الإنساني وزايد عليهم ldquo;وطنيةrdquo; بدفاعه عن النظام وما يفعله، هو الوجه الحقيقي الذي لم نره قبل اليوم والذي يثبت كم أن ldquo;لحامrdquo; برع في التمثيل طوال هذه السنوات سواء على الشاشة أو المسرح أو في حواراته الصحافية؟ وهل كانت استقالته من منصبه كسفير للنوايا الحسنة مسرحية من نوع خاص؟

نستغرب أيضاً لغة التخوين التي انتقلت من مصر إلى سوريا، كأن الدرس الأول لم يكن كافياً ليتعظ منه الفنانون في أي بلد عربي كانوا . كثير من الفنانين اتخذوا من التلفزيون السوري وقناة ldquo;الدنياrdquo; منصة لمهاجمة زملائهم ونعتهم بألفاظ لا تليق بمن يفترض أنهم من فئة المثقفين والمفكرين، مثل الممثل زهير عبدالكريم الذي وصف زملاءه الموقعين على البيان بrdquo;الخائنينrdquo; وطالب السلطات بسحب الجنسية منهم، داعياً هؤلاء الموقعين إلى دعم السلطة والعمل ldquo;على تلميع صورتهاrdquo; . واللافت أن قناة ldquo;الدنياrdquo; تفرز الاتصالات التي تردها من الفنانين والمشاهدين، وتقطع أي اتصال لا يتوافق مع صوت السلطة، وتفتح الأبواب أمام وصلات المجاملة واللعب على العواطف التي ساهم فيها عدد من الفنانين . ألا يذكرنا هذا المشهد بآخر شاهدناه على التلفزيون المصري خلال الثورة؟

ليس المطلوب شحن النفوس، ولا محاكمة هذا الطرف أو ذاك، ولكن العدل وكلمة الحق هي الفيصل وهي الحكم . وكما أن ldquo;الموالينrdquo; للسلطة يدافعون عنها بكل الوسائل، من حق المناهضين أن يقولوا كلمتهم إذا كان ldquo;سقف الوطنrdquo; يستحمل هذا الصراع الديمقراطي ويفسح المجال أمام أبنائه ليعبروا عن أنفسهم كما يقولون . أما إذا كان السقف أدنى من هذه الحدود، فدعونا نسأل: ماذا إذا أزيل السقف وتعرى الوطن؟

بوركت الأصوات التي تنادي بالوسطية وبحماية الناس من الهمجية ومن التعذيب الإنساني وتفصله عن أي موقف سياسي، وبئس من يرفع شعار: اصلبوهم، اجلدوهم، قاطعوهم، انهشوا لحمهم، لأنهم قالوا كلمة بحق أهلهم وناشدوا الضمير الحي أن يجنب الوطن مجازر أهلية .