عمرو عبدالعاطي


مثلت موجة الثورات والهبّات الشعبية العربية التي مازالت تشهدها العديد من الدول العربية صدمة للدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، بل وللعديد من الأنظمة العربية أيضاً . فلم تتوقع الأجهزة الاستخباراتية ولا الوكالات والمؤسسات الرسمية الأمريكية والغربية ولا مؤسسات الفكر والرأي الغربية، إمكانية حدوث ثورات عربية على غرار تلك التي شهدتها دول أوروبا الشرقية مع سقوط الاتحاد السوفييتي وانهيار سور برلين في نهاية الثمانينات وبداية التسعينات من القرن المنصرم .

لذا تميز الموقف الأمريكي والغربي بداية من الثورة التونسية ثم المصرية بالتخبط والتردد لفجائيتهما من ناحية، ولعدم توقع مع حدوث الثورتين وبداية إرهاصاتهما أن تسيرا بتلك السرعة . وهو الأمر الذي دفع نيكولاس بيرنز، نائب وزير الخارجية الأمريكي الأسبق، لوصف ما تشهده منطقة الشرق الأوسط من ثورات وهبات شعبية بأنه زلزال كبير، ورآه تحولاً مهماً منذ سقوط الإمبراطورية العثمانية عقب الحرب العالمية الأولى، ولهذا نصح الإدارة الأمريكية بالعمل على إعادة حساباتها بصورة كاملة بما يتواءم مع هذه التغيرات الجارية .

في محاولة لإعادة صياغة الموقف الأمريكي والغربي من الربيع العربي بعد غياب امتد إلى ستة أشهر في الموقف الأمريكي الذي اتسم بالتردد والتخبط وعدم وضوح الرؤية، وبعد نجاح الثورتين التونسية والمصرية بالإطاحة بنظاميهما السلطويين، لاسيما الثاني الذي كان يتلقى أكثر درجات الدعم من الولايات المتحدة والدول الغربية مع بداية إرهاصات الثورة حتى قبل أيام من سقوطه في الحادي عشر من فبراير/ شباط الماضي، ومع امتداد جذوة الثورتين المصرية والتونسية إلى جُل إن لم يكن كل الدول العربية من المحيط إلى الخليج بما يحمل في طياته تهديداً للمصلحة الغربية وفي القلب منها الأمريكية في منطقة تحل أهمية استراتيجية في منظومة الأمن والمصلحة القومية الأمريكية، خاطب الرئيس الأمريكي باراك أوباما شعوب المنطقة العربية في التاسع والعشرين من مايو/ أيار الماضي من قاعة بنيامين فرانكلين بوزارة الخارجية الأمريكية، عن الموقف والسياسة الأمريكية تجاه الثورات العربية، وعن الدعم الذي تقدمه الولايات المتحدة إلى الثوار والدول العربية فيما بعد الثورات التي مازالت تشهد هبّات شعبية .

المعونات لدعم دول ما بعد الثورة

احتل الجانب الاقتصادي لدعم الثورات العربية جزءاً مهماً في خطاب أوباما الأخير إلى شعوب منطقة الشرق الأوسط، فقد ركز على تقديم الدعم إلى الاقتصادين المصري والتونسي المتدهور منذ الثورتين اللتين شهدهما البلدان . ويتنوع هذا الدعم الاقتصادي بين المعونات والدعوة إلى زيادة الاستثمارات في البلدين، وتخفيض الديون، ومطالبة المؤسسات المالية الدولية (صندوق النقد والبنك الدوليين) بمساعدة الدولتين في النهوض من أوضاعهما الاقتصادية المتدهورة بعد الثورة، والعمل مع الكونغرس الأمريكي من أجل إنشاء صناديق للمشروعات من أجل الاستثمار في تونس ومصر، وإطلاق مبادرة شاملة للشراكة في التجارة والاستثمار بالشرق الأوسط وشمال إفريقيا .

وفي وقت سابق أعلنت مارجريت سكوبي سفيرة الولايات المتحدة بالقاهرة أن الكونغرس الأمريكي أقر مؤخراً ربع مليار دولار كمساعدات اقتصادية أمريكية لمصر للسنة المالية عام ،2011 وذلك في إطار برامج المساعدات المهمة في مصر التي توفرها الولايات المتحدة للاقتصاد المصري للنهوض من عسرته التي يمر بها عقب ثورة الخامس والعشرين من يناير/ كانون الثاني .

وفي أول قمة دولية تتطرق لموجة الثورات الشعبية في العالم العربي، بحث زعماء الدول الثماني الصناعية الكبرى في قمتهم التي انعقدت في منتجع دوفيل الفرنسي الشمالي يومي 26 و27 من مايو/ أيار الماضي دعم اقتصادات مصر وتونس بحضور رئيسي وزراء البلدين لاستكمال عملية بناء الديمقراطية والاقتصاد الموجه نحو السوق، في الوقت الذي استبق البنك الدولي الاجتماعات بالإعلان عن تقديم ستة مليارات دولار للبلدين من بينها 5 .4 مليار دولار لمصر .

ومع اختتام أعمال القمة تعهد الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي بتقديم 20 مليار دولار كحزمة مساعدات لربيع الثورات العربية (مصر وتونس) دفعة أولى من إجمالي 40 مليار دولار تم الاتفاق عليها في اجتماعات قمة دول الثماني الصناعية الكبرى، فضلاً عن 10 مليارات منها ستقدم بشكل مباشر من الحكومة الفرنسية . وفي خطابه عن الربيع العربي تعهد الرئيس الأمريكي باراك أوباما بملياري دولار لمصر، وأعلن الاتحاد الأوروبي تقديم 7 .1 مليار دولار إضافية في ميزانيته لدول الجوار، وعادة ما يذهب ثلثا هذه الميزانية لدول شمال إفريقيا والشرق الأوسط .

المساعدات والمشروطية واستقلالية القرار

كثيراً ما تُصحب المعونات والمساعدات التي تدفعها الدول والمؤسسات المانحة بمشروطية سياسية أو اقتصادية . فالدول والمؤسسات المانحة تربط معوناتها باتخاذ إصلاحات سياسية أو اقتصادية واجتماعية قد تقبلها الدول المتلقية للمعونة في حين ترفضها أخرى . والمشروطية السياسية والاقتصادية المصحوبة للمعونة هي آلية تتبعها الدول والمؤسسات المانحة منذ نهاية الحرب الباردة .

وفي العادة تكون المعونات التي تدفعها الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية والمؤسسات المالية التي تسيطر عليها واشنطن مصحوبة بجملة من الإجراءات السياسية والتي في كثير من الأوقات تحد من حرية الحركة والتصرف للدول المتلقية للمعونة على المسرح الدولية، أو اتخاذ سياسات ومواقف من شأنها معارضة مصالح الدول المانحة أو أحد حلفائها في المنطقة .

وهو الأمر الذي فرض على وزارة الخارجية المصرية في خطاب رسمي إلى السفارة الأمريكية في القاهرة رفض اقتراح واشنطن منح مصر معونات تنموية قدرها 150 مليون دولار لدعم الاقتصاد المصري في مرحلة ما بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير، لكونها مشفوعة بشروط لتقديم المساعدة من قبل الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية . وهذا القرار منطقي في ظل توجهات السياسة الخارجية المصرية لاستقلاليتها في مرحلة ما بعد الثورة . كما أن الثورة في حد ذاتها تعني السعي لتعزيز الديمقراطية من دون تدخل خارجي، ودمقرطة المنطقة بأيدي أبنائها وليس بالدعم الخارجي من قبل واشنطن أو دول أوروبية .

وتتمثل المفارقة في المساعدات والمعونات الغربية والأمريكية إلى أنظمة ما بعد الثورات في ثلاثة أمور رئيسة:

* أولا: فرض واشنطن والدول الغربية مشروطية سياسية على المعونات والمساعدات الاقتصادية لتعزيز التحول الديمقراطي في الوقت الذي قامت فيه الثورات العربية من أجل التخلص من الأنظمة السلطوية التي كانت تؤيدها الولايات المتحدة والدول الغربية، والتي مازالت تؤيد كثيراً منها خوفاً على مصالحها الاستراتيجية .

* ثانياً: إن الولايات المتحدة والدول الغربية كانت غائبة عن المشهد السياسي ولم يكن لها دور في حركات التحول الديمقراطي التي تشهدها عديد من دول المنطقة مؤخراً إثر الثورات التي تشهدها .

* ثالثاً: أن المشروطية تأتي في وقت تسعى فيه الدول العربية التي شهدت ثورات من أجل استقلالية سياساتها الخارجية والخروج بها من تحت العباءة الأمريكية التي تهدف التأثير في السياسات العربية من أجل تحقيق مصالحها الذاتية فقط .

وهو الأمر الذي يوضح أنه مازال هناك تخبط في الرؤى والمواقف الأمريكية والأوروبية من الثورات العربية، وأن هناك تعارضاً بين القيم والمبادئ التي تنادي بها تلك الدول ومصالحها الذاتية في المنطقة التي تسعى للحفاظ عليها . ويؤشر إلى أن المعونات مرتبطة بتوجهات الدول وموقفها تجاه المصالح الغربية في المنطقة وليس دعم قيم الديمقراطية والحريات كما تنادي الدول الغربية عند حديثها عن الهدف من المعونات والمساعدات الاقتصادية للدول التي تشهد ثورات كمصر وتونس .

المال والبحث عن موطئ قدم

أثار الإعلان الأمريكي والأوروبي بل والخليجي لدعم اقتصادات النظامين التونسي والمصري (بالأساس) بعد الثورة التي شهدها البلدان والتي أطاحت نظامين كانا بعيدين عن التخلص منهما بتلك السهولة تساؤلاً رئيساً حول الهدف الكامن من تلك المساعي، في وقت كانت الدول الأوروبية والعربية والولايات المتحدة الأمريكية تدعم النظامين أو تغض الطرف عن انتهاكاتهما .

وفي إطار الإجابة عن هذا التساؤل الرئيس، ذهب كثير من الآراء إلى أن الهدف الرئيس الكامن من تلك المساعدات هو القفز على مكتسبات الشعوب العربية في وقت كانت الولايات المتحدة وعديد من الدول الغربية غائبة عن المشهد العربي لشهور تاركة الشعبين المصري والتونسي في مواجهة نظامين بوليسيين، وأن تلك الدول تهدف من مساعداتها إيجاد موطئ قدم في دول الربيع العربي بعد غياب فاعل ومؤثر في الثورات العربية، سواء في إرهاصاتها الأولى أو في مرحلة عنفوانها ومواجهاتها الدامية مع أنظمتها السلطوية والدعم لها، ولكن يأتي الدعم والمساعدات الغربية والأمريكية بعد نجاح الثورات في التخلص من حكامها ليكون لهم وجود مؤثر في المرحلة القادمة تمكنهم من تحجيم الربيع العربي الذي ستتمخض عنه دول ذات ديمقراطيات راسخة .

ناهيك عن الخوف من أن يطال التحول الديمقراطي الذي تشهده دول عربية كمصر وتونس دولاً أخرى حليفة لواشنطن والغرب بما يهدد توازن القوى في المنطقة الذي يخدم تحقيق المصالح الأمريكية في المنطقة، والتي أجملها الرئيس الأمريكي في استراتيجية الأمن القومي التي أعلنها في السابع والعشرين من مايو / أيار،2010 والتي أعاد ذكرها في خطابه الأخير إلى العالم العربي في التاسع عشر من مايو الماضي، والتي تتمثل في: مكافحة الإرهاب، وقف انتشار الأسلحة النووية، وتأمين تجارة حرة، وحماية أمن المنطقة، والدفاع عن ldquo;إسرائيلrdquo;، والسعي إلى سلام عربي شامل .

ومع الإعلان عن تلك المساعدات ظهرت كثير من التعليقات على شبكات التواصل الاجتماعي مثل الفيسبوك وتوتير رافضة قبول تلك المساعدات والمحاولات الأمريكية والغربية لمساعدة الاقتصاد التونسي والمصري . فيُنظر إلى المساعدات الأمريكية التي تم الإعلان عنها لاسيما مع اصطحابها بمشروطيات على أنها عودة إلى الخنوع المصري والعربي إلى الإملاءات الأمريكية والغربية بعد ثورات أرجعت إلى الشعوب والدول العربية استقلاليها بعدما أخذت الشعوب العربية زمام المبادرة، وتقرير مستقبلها من دون تدخل أو مساندة من واشنطن أو قوى خارجية .

بالإضافة إلى اقتناع الكثيرين بأن الدعم والمعونات الأمريكية ما هو إلا محاولات غربية وأمريكية للتدخل من جديد في القرار العربي والاعتراض على أي قرار ترى فيه واشنطن والعواصم الأوروبية معارضة لمصالحها في المنطقة بعد ثورة راح ضحيتها مئات الأرواح من أجل استقلالية القرار العربي، وبناء الدول العربية وديمقراطيتها وتخليصها من أنظمتها الفاسدة بيدها من دون أي مساعدات من قوى خارجية . وأن أحد هداف الثورات العربية هو التخلص من الهيمنة الأمريكية والغربية على المنطقة وعلى القرار العربي .

إخفاق في المهمة

وعلى المستوى الأمريكي ورغم محاولات الرئيس الأمريكي في خطابه عن ldquo;الربيع العربيrdquo; في إقناع مستمعيه من الشعوب العربية بأن القيم والمبادئ الأمريكية التي تسعى واشنطن لنشرها قد تعلو المصلحة الأمريكية، إلا أنه أخفق في إقناعهم بأن المبادئ والقيم الأمريكية ستكون لها الغلبة في حال تعارضها من المصالح الأمريكية الآنية في المنطقة .

لدى الشعوب العربية خبرة تاريخية قوامها أنه طوال الستين سنة الماضية ضحت الولايات المتحدة ومن ورائها الدول الغربية بديمقراطية وحرية شعوب المنطقة من أجل مصالحها، بل إنها دعمت الأنظمة السلطوية طالما تحافظ على تلك المصالح، فعارضت واشنطن نتائج الديمقراطية العربية التي أوصلت قوى مناوئة للولايات المتحدة إلى السلطة مثل جماعة الإخوان المسلمين في الانتخابات البرلمانية عام 2005 وحماس في الانتخابات التشريعية الفلسطينية عام 2006 كما أن أوباما غض الطرف عن الانتهاكات الإيرانية ضد المتظاهرين بالمدن الإيرانية إبان انتخابات الرئاسية الإيرانية عام 2009 واكتفى بتصريحات على استحياء لا تدين النظام الإيراني على النحو المتوقع .

وما يؤكد على هذا ما ذهبت إليه كل من كاي جرانجر، رئيس لجنة الاعتمادات والمساعدات الخارجية بمجلس النواب الأمريكي، ونيتا لوي، الديمقراطية البارزة ورئيس اللجنة الفرعية للعمليات الخارجية في المؤتمر السنوي للجنة الشؤون العامة الأمريكية ldquo;الإسرائيليةrdquo; (إيباك) إحدى أقوى جماعات اللوبي ldquo;الإسرائيليrdquo; بالولايات المتحدة الأمريكية الذي عقد الشهر الفائت من رفضهما اعتماد مساعدات للنظام المصري في حال وصول جماعة الإخوان المسلمين إلى الحكم لمعارضة الجماعة المصالح الأمريكية في المنطقة وسياساتها المتشددة تجاه ldquo;إسرائيلrdquo; في حال وصولها إلى الحكم، ناهيك عن رؤية الأمريكيين إلى أن وصولهم للحكم يهدد أمن ldquo;إسرائيلrdquo; الذي لا ينفصل عن نظيره الأمريكية، ولذا رفضتا منح مساعدات عسكرية لنظام غير معروفة هويته .

ويضاف إلى أسباب الإخفاق الأمريكي في إقناع الشعوب العربية أن الولايات المتحدة تهتم بدمقرطة واستقرار دول المنطقة ومساعدتها في الخروج من أزماتها الاقتصادية التي تمر بها عقب الثورات التي تشهدها سببين رئيسيين يتمثلان في:-

* أولاً: انتهاء ما أطلق عليه مع دخول أوباما البيت الأبيض في العشرين من يناير 2009 صرعة أوباما، وتقلص رأس ماله السياسي بين شعوب المنطقة . فقد أظهرت نتائج استطلاعات الرأي التي أُجريت في عديد من الدول العربية والإسلامية انخفاض نسبة التأييد للرئيس الأمريكي باراك أوباما بين شعوب المنطقة مقارنة بنظيرتها في أول أيامه بالمكتب البيضاوي، بل إنها وصلت لأدنى مستوياتها منذ أن وطئت قدماه البيت الأبيض، وفي استطلاعات كانت أقل من نسبة التأييد للرئيس الأمريكي الأسبق بوش الابن في أواخر أيام حكمه . فقد وصلت نسبة التأييد لrdquo;أوباماrdquo; في عديد من الدول الحليفة للولايات المتحدة مثل تركيا إلى 10% ومصر 23% والأردن 13% والأراضي الفلسطينية 11% وذلك حسب نتائج الاستطلاع الأخير لمركز ldquo;بيوrdquo; للاستطلاعات الرأي، والذي أُجري خلال شهري مارس/ أذار وإبريل/ نيسان المنصرمين .

* ثانياً: إخفاق الإدارة الأمريكية في الوفاء بما وعد به أوباما في خطابه بالقاهرة من مضاعفة الجهود الأمريكية من أجل تسوية الصراع العربي الإسرائيلي، وتراجعها عن كثير من وعودها في العالم الإسلامي لتحقيق الاستقرار وإنهاء العنف والفوضى، فقد تخلت واشنطن عن كل تلك المطالب من أجل مصالحها الذاتية، فلم تنسحب إلى يومنا هذا من العراق وأفغانستان . ويُضاف إلى ذلك تراجع إدارة أوباما عن غلق معتقل غوانتانامو وعن تقديم معتقليه للمحاكم المدنية .

وفي التحليل الأخير، فإن ما يحرك سياسات الدول الغربية تجاه المنطقة وقضاياها هو مصالحها وليس شيئاً آخر . فلن تخاطر تلك الدول التي تنادي بتدعيم الحريات والثوار العرب وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية بمصالحها بالمنطقة وعلاقاتها القوية مع نظم حكم سلطوية استبدادية طالما تخدم وتحافظ على المصالح الأمريكية بالمنطقة .