رامي خريس


في صيف 2007، سيطرت حركة حماس، بعملية مسلحة خاطفة، على المقارّ والمؤسسات الأمنية في قطاع غزة التي مثّلت، عبر سنوات طويلة، واجهة السلطة والنفوذ لحركة فتح. وشكلت تلك السيطرة تحوّلاً في مسار الأحداث السياسية الساخنة منذ فوز حركة حماس بالانتخابات البرلمانية في كانون الثاني 2006.
ومنذ تلك اللحظة، كان لزاماً على كلتا الحركتين أن تعيدا بناء مجالهما الأمني، كلٌ في منطقة نفوذه، وأن تُصمّما أدوات الضبط والسيطرة التي تضمن إبقاء سلطتيهما بعيدتين عن التهديدات الداخلية، وبما يعزز من مقدرتهما على تطبيق السياسات العامة المختلفة، المُقرّة من القيادة السياسية. وفي هذا السياق، اتخذت الأجهزة الأمنية لكلا الطرفين إجراءات حثيثة لتفكيك البنية التنظيمية والمؤسساتية للآخر. وهكذا، كانت حملات الاعتقال والإغلاق والاستحواذ على المؤسسات والموارد الأخرى، تأخذ شكلاً تبادلياً ودائماً وانتقامياً، في كلّ من الضفة وغزة، ما أدى في المحصلة إلى تعميق الانقسام وتردّي حالة حقوق الإنسان وانخفاض سقف الحريات العامة في الأراضي الفلسطينية.
بالنسبة الى حماس، فإنّ مهمة بناء منظومة أمنية متماسكة وفعّالة كانت تتطلب البدء من الصفر في ظل موارد مالية وتقنية وتدريبية شحيحة. وقد استفادت حماس في هذا المضمار من خبرات ضباط السلطة الفلسطينية الذين رفضوا الاستنكاف عن أعمالهم وقرروا الانخراط في جهودها لتأسيس أجهزة أمنية في القطاع، إضافة إلى الخبرات من خلال التدريبات التي تلقاها ضباط حماس في دول كإيران. لكن الحركة استفادت أيضاً من مثالب كونها تنظيماً عقائدياً، يطبق مبادئ التنظيم الحديدي والولاء الكامل لمستويات القيادة المختلفة، ما انعكس بالضرورة في بنية الأجهزة الأمنية التي يعتمد قوامها البشري على عناصر من حماس أو مقرّبين منها. ولم تشذ حماس كثيراً عن القاعدة التي رسختها فتح التي تنظر إلى الانتماء التنظيمي كوسيلة لضمان النفوذ في المواقع السلطوية. وقد نجحت الحركة في تأسيس منظومة أمنية ترتكز على ما يقارب من 15000 عنصر، موزعين على أجهزة الأمن الوطني، الشرطة المدنية، الأمن والحماية، والأمن الداخلي. وهذا الأخير هو جهاز استخباري تولى مسؤولية تنفيذ السياسة الأمنية المتصلة ببسط النفوذ السياسي لحماس في غزة، ومراقبة خصومها وضربهم، وعلى رأسهم فتح.
أما فتح، فإنّ إعادة تنظيم قطاعها الأمني في الضفة الغربية كانت عملية أكثر تعقيداً. فالقيادة الجديدة التي يمثلها الرئيس محمود عباس ورثت أجهزة مختلفة ذات وظائف متعددة ومتداخلة، وبمرجعيات غير واضحة. وكان هذا النمط من الإدارة يمثل مقاربة الراحل ياسر عرفات بهدف تنويع مراكز القوى الأمنية، وإذكاء المنافسة بينها بحيث تؤول مسؤولية التحكيم في ما بينها له وحده. وقد بدأ عباس خطوات فعلية لإصلاح الجهاز الأمني. فكان هناك قانون التقاعد للقوى الأمنية الذي أسهم في خفض عدد الضباط الذين تزيد أعمارهم على 60 عاماً بنسبة 90% بحلول2010، وسن القانون الرقم (8) لقوى الأمن في 2005، وهو يهدف بالأساس إلى توحيد الأجهزة الأمنية في ثلاثة كيانات هي: الأمن الوطني، الأمن الداخلي والاستخبارات العامة. لكن التحوّل النوعي حدث في 2007 عندما باشرت أميركا والاتحاد الأوروبي برنامجاً كاملاً لإعادة تأهيل الأجهزة الأمنية الفلسطينية في الضفة الغربية، بإشراف الجنرال كيث دايتون. وقد أنفقت الدول المشاركة في برنامج الإصلاح الأمني ما يقارب 450 مليون دولار منذ 2007. بالنسبة الى محمود عباس وغيره من قادة السلطة الفلسطينية، كان إصلاح الأجهزة الأمنية عملية ذات مضمون سياسي قبل أن تكون عملية ذات أبعاد تقنية. تمثل هذه العملية بالنسبة الى قيادة السلطة جزءاً من الجهود المبذولة لتقديم نموذج يلتزم تماماً بالشروط الواردة في الاتفاقات والتفاهمات الموقعة بين السلطة وإسرائيل، ويعمّق التنسيق الأمني بين الطرفين. كما يفرض النظام العام في الضفة الغربية من خلال تصفية الميليشيات العسكرية واحتكار استخدام العنف وحصره بالأجهزة الأمنية للسلطة، واستهداف البنية التنظيمية لحماس. مثّل الملف الأمني إحدى العقبات الرئيسية في وجه استكمال التوقيع على اتفاق المصالحة الفلسطينية. ففي فتح، كانوا ينظرون دائماً إلى أنّ المشكلة الأمنية قائمة في غزة فقط بسبب استيلاء حماس على مقار المؤسسة الأمنية الرسمية، واستبدال الأجهزة التي كانت قائمة بأخرى جديدة. وحتى اجتماع دمشق في تشرين الثاني 2010، الذي خُصص لمناقشة ملاحظات حماس على الملف الأمني، كان الإصرار الفتحاوي ومن ورائه دعم القيادة المصرية السابقة، على ضرورة أن لا يكون هناك تقاسم لأجهزة الأمن بين حماس وفتح. لكن الاتفاق الذي وقّع أخيراً في القاهرة يعيد في الواقع عقارب الساعة إلى الوراء، ويفرض على الطرفين معالجة هذا الملف في ضوء استراتيجية متكاملة لتوحيد الأجهزة الأمنية وإعادة هيكلتها في الضفة وغزة.
وأهم ما تنص عليه الورقة المصرية بشأن الموضوع الأمني هو تأليف لجنة أمنية عليا من ضباط مهنيين وتحت إشراف عربي، من أجل رسم السياسة الأمنية، وتنفيذ الاتفاق الخاص بالأمن خلال الفترة الانتقالية التي تمتد لعام كامل. ويعني ذلك أنّ الأجهزة الأمنية القائمة في كلّ من الضفة الغربية وغزة ستمارس مهماتها بصورة اعتيادية، لكن في ظل عملية دمج 3000 عنصر من السلطة الفلسطينية في أجهزة حماس، وصولاً إلى استعادة كامل عناصر الأمن الفلسطيني الذين استنكفوا عن أعمالهم بعد صيف 2007 إلى مواقعهم. غير أن تنفيذ اتفاق من هذا النوع قد تعوقه ثلاث مشكلات ذات طبيعة مختلفة.
هناك أولاً، المشكلة التقنية. فبسبب الطريقة التي أُسست فيها الأجهزة الأمنية بناءً على الولاء التنظيمي، فإنّه سيكون من الصعب توفير أرضية مشتركة لرجال أمن حماس وفتح للعمل معاً، وخاصة في ظلّ اختلاف المنظور الأمني والسياسي لكلّ من قيادتهما. وستطرح هذه المسألة تعمّق الهيمنة السلطوية على المجتمع في ظل وجود عشرات الآلاف من عناصر الأمن في مجتمع صغير وواقع تحت الاحتلال.
ثانياً، المشكلة المالية، إذ تدعو الحاجة الى دمج المزيد من عناصر الأمن التابعين لحماس أو فصائل أخرى في منظومة الأمن الفلسطينية لتوفير موارد مالية جديدة لدفع رواتبهم ومخصصات مقارّهم وأنشطتهم العملياتية اليومية. يعني ذلك زيادة في الأعباء المادية على موازنة السلطة المالية التي تمثّل فاتورة الأجهزة الأمنية حوالى 45% منها. وسيعني اتخاذ الدول المانحة وإسرائيل موقفاً سياسياً من السلطة قطعاً لأموال المساعدات الدولية عنها، وبالتالي عجزها عن توفير رواتب عناصر الأمن.
ثالثاً، المشكلة السياسية، وتعدّ أهم العقبات التي يمكن أن تواجه عملية الشراكة بين حماس وفتح. فالولايات المتحدة الأميركية وأوروبا وإسرائيل التي استثمرت في بناء الجهاز الأمني الفلسطيني في الضفة الغربية، سيكون من الصعب عليها القبول بفكرة دمج حماس في هذا الجهاز. وإلى حد بعيد، قد يؤدي طرح هذه المسألة على مستوى النقاش الفلسطيني إلى تفجير الاتفاق من داخله، في ظل الرغبة التي يبديها الرئيس الفلسطيني لتأليف حكومة تلبي الاشتراطات الدولية.
ويعني ذلك في المحصلة النهائية أنّ الحفاظ على التوافق بين حماس وفتح في إطار اتفاق المصالحة يمكن أن يقوم على حدّ أدنى من التوافق السياسي، لكن في ظلّ وجود كيانين أمنيين ينفذان سياسات مختلفة لا يمكن أن تؤدي إلى قيام مؤسسة أمنية واحدة تخضع لإشراف مدني ويكون ولاء عناصرها للمؤسسة والقانون الأساسي. ومهما تكن النتائج التي ستنجم عن الانتخابات المزمع عقدها بعد عام من توقيع المصالحة، فإنّها ستكون مهددة بوجود هذه التشكيلات المسلحة التي لن تكون ضامناً لعملية ديموقراطية، بل أدوات لمزيد من الصراع على السلطة والنفوذ.