رضوان السيد

توصلت لجنة المتابعة العربية بشأن القضية الفلسطينية في اجتماعها بالدوحة إلى ثلاثة قرارات: الترحيب بمبادرة أوباما، وإيقاف المساعي الخاصة بالمبادرة العربية للسلام، والإصرار على الذهاب إلى الأُمَم المتحدة في سبتمبر لاستحصال اعتراف بالدولة الفلسطينية، إن لم يبدأُ التفاوُض بين الإسرائيليين والفلسطينيين بإشرافٍ أميركي، قبل ذلك. وبذا فإنّ اللجنة تُشجّع أوباما على المُضيّ قُدُماً في مقولته بشأن الدولة الفلسطينية المستقلّة في حدود عام 1967، رغم هَوبرة الكونجرس بمجلسَيه لنتنياهو، وفي الوقت نفسِه تضغط اللجنة على أوباما وعلى الرُباعية بطريقتين: الإصرار على الذهاب للأُمم المتحدة رغم المُعارضة الأميركية، والتهديد من جهةٍ أُخرى بأنّ المبادرة العربية للسلام لن تبقى على الطاولة لأمدٍ طويل؛ وهو أمر كان قد أكّده العاهل السعودي في قمة الكويت.

لقد اعتبر بعضُ المراقبين -ومنهم كاتبُ المقالة- أنّ مبادرة أوباما سيكون مصيرُها مثل مصير مبادرات سابقة لرؤساء أميركيين، كبوش الابن، عندما يعترض عليها اليهود الأميركيون (إيباك)، ويدعمُهُمْ الكونجرس بمجلسَيه، كما حصل مع أوباما. في هذه الحالات لا يمضي الرئيس الأميركي قُدُماً، ويستطيع الاعتذار بأنه ليس حكومة إسرائيل فقط هي التي تعترض؛ بل والشعب الأميركيُّ عبر ممثليه أيضاً. وكانت لديَّ حُجّةٌ أُخرى لهذا الرأْي، مؤداها أنه لو كانت لمبادرة أوباما حظوظٌ في النجاح لما استقال ميتشل مبعوثه بشأن القضية منذ سنتين ونصف. إذ الواضح أنّ خطة ميتشل تُشبهُ ما آلت إليه أفكار الرُباعية التي كانت تسعى لحلّ القضية بالتفاوُض. وعندما استقال ميتشل، بل قبل استقالته بأُسبوعين، ظهرت شائعةٌ في أوساط الصحفيين الأميركيين مفادها أنّ الرجل سيستقيل لأن وجهة نظره انتصرت عليها وجهةُ نظرٍ أُخرى يمثلها دنيس روس الذي يرى عدم مفاجأة نتنياهو بأيّ شيءٍ، والحصول على موافقته قبل كل خطوة، حتى لا يظهر خلافٌ بين الطرفين قد يُضرُّ بإمكانيات الحلّ السلمي، كما يُضرُّ بأوباما في حملته لتجديد الولاية، والتي تبدأُ منتصف العام القادم. لكنّ الرئيس الأميركيquot;غامَرَquot; بالإعلان عن فكرته، أي عن فكرة ميتشل معدَّلةً وإن تراجع عن بعضٍ منها في كلامه أمام quot;إيباكquot;. وهذا يعني أنّ quot;حشْرةquot; أوباما لم تمنعْهُ من طرح الفكرة أو الخطّة. كما أنّ هذه quot;الحشْرةquot; ذاتَها ما منعته من القول إنّ quot;الوضع الراهنquot; لا يمكنُ استمرارُه. فهناك ملايين الفلسطينيين ما يزالون تحت الاحتلال، وبدون دولة. والعالَم ما عاد يصبر على استمرار هذه الحالة؛ بدليل تذمُّر اللجنة الرُباعية، وإقبال دول في أميركا اللاتينية وآسيا وأوروبا على الاعتراف بدولة فلسطين دون انتظار الموافقة الأميركية أو الإسرائيلية!

وهكذا فرغم تخاذُل أوباما أمام عناد نتنياهو، ظلَّ على مسافةٍ منه، وما غيَّر موقفه من المستوطنات والقدس، نافياً أن يكون للانتخابات القادمة تأثيرٌ على قراره بشأن إقامة دولةٍ للفلسطينيين، وإلاّ لما ذكرها أصلاً. والذي أراه أنّ سبب ذلك يعودُ إلى وعْده للعرب بذلك منذ أكثر من عام. وكان وقتَها تحت تأثير ميتشل والرُباعية، وبعد حملات نتنياهو المُتوالية، ونجاح ميتشل في جَرِّ الطرفين إلى مفاوضاتٍ غير مباشرة مرتين، وفي المرتين توقفت بسبب الاستيطان المتمادي. إنما العاملُ الأهمُّ أمران: حركة الاحتجاجات العربية، ومقتل بن لادن على أيدي الأميركيين. فالاحتجاجات العربية جلبت معها تأييداً أميركياً وأوروبياً كاسحاً. وما عاد مقبولاً أمام هذا التقدم الديمقراطي العربي، أن يُستثنى منه الفلسطينيون فيبقوا تحت الاحتلال، وتكون الولايات المتحدة تقيسُ الأمور بمقياسين. لقد قال أوباما بالقاهرة قبل عامين، إنه لا يُعاني من رُهاب الإسلام، وإنه يريد تجاوُز المشكلة بين أميركا والمسلمين والعرب، والتي خلقَها في رأْيه بن لادن وبقية المتطرفين، والتخاذُل أمام الإرهاب، كما التخاذُلُ أمام حالة الجفوة أو العداء؛ فإنّ ذلك يعني أنّ الإرهابيين نجحوا في خطتهم لتدمير العلاقة بين أميركا والمسلمين. وجاء مقتل بن لادن بعد التدخُّل العسكري الأميركي لحماية الشعب الليبي، فدخَلَ على المشهد أَمْران: زوال عقبة من طريق التواصُل، واعتبار أنّ الولايات المتحدة المستعدة للقتال من أجل الحرية العربية، ما عادت تستطيع السكوت على الاحتلال الإسرائيلي أياً تكن الاعتبارات. ثم إنّ الباقين من النظام العربي، وأَقْصِدُ بهم مجلس التعاوُن الخليجي، تعاونوا مع أوباما لأقصى الحدود. فما سحبوا مبادرة السلام العربية، وأصرُّوا مع عباس على البقاء في إطار الشرعية الدولية التي تجاهلها نتنياهو وما يزال. فعندما تضرر الفلسطينيون ضرراً فادحاً من الاستيطان، ما عادوا لاستعمال العنف؛ بل لجأوا لمجلس الأمن، حيث بدا موقف الولايات المتحدة عسيراً، لأنها وقفت وحدها ضدّ ذاك اللجوء، واستعملت حقَّ الفيتو لحماية إسرائيل من الإدانة. وقد استغرب الجمهور العربيُّ ذلك، وما فهم كيف يمكن للأميركيين أن لا يسيروا حتى كما سار الفرنسيون والبريطانيون في مجلس الأمن: فأين هي البشاشةُ إذن مع المسلمين، وأين صار وعْدُ تصحيح العلاقة مع العرب: بالانسحاب من العراق، وبفرض حلٍّ تفاوضيٍ في فلسطين؟!

ثم إنّ هذه الاحتجاجات العربية من أجل الكرامة والحرية، والتي دعمتْها الولايات المتحدة، بدأ شبابُها يُظهرون نفاد صبر أمام التمادي الإسرائيلي، وها هم المصريون يفتحون معبر رفَح، ويتظاهرون باستمرار أمام السفارة الإسرائيلية بالقاهرة. وإذا وقفت الولاياتُ المتحدةُ للمرة الثانية أو الثالثة وحيدةً مع إسرائيل أمام الجمعية العامة، ثم أمام مجلس الأمن؛ فلا شكَّ أنّ أوباما وربما الأوروبيين الكبار، سيضيعون رهانهم على احتجاجات الشباب، وسيجدون أنفُسَهُمْ في مواجهة مظاهراتهم المليونية، الممزِّقة هذه المرة ليس العَلَم الإسرائيلي وحده، بل الأميركي أيضاً. وسيستفيد من ذلك المتشددون بالطبع وكلّ الذين يعتبرون أنفُسَهُمْ متضررين من عملية التفاوُض.

إنّ كلَّ الشواهد تُشير إلى إحراجٍ شديدٍ يشعُرُ به الأميركيون، نتيجة الموقف الذي أَوصلهم إليه تعنُّتُ نتنياهو. فكبار الكيان الصهيوني من عسكريين ومدنيين يجتمعون للمرة الثانية لإصدار بيانٍ عن السير في عملية السلام تحت مظلة مبادرة السلام العربية. وquot;حماسquot; التي قامت على قتال إسرائيل منذ أواخر الثمانينيات، يقول رئيس مكتبها السياسي إنه مستعدٌّ لإعطاء التفاوُض فُرصةً، رغم فشل quot;مدريدquot; وquot;أوسلوquot;، وكلّ المفاوضات التي أجراها عرفات ثم عباس. والعرب رغم الضغوط الشعبية لا يتخلَّون عن أمل السلام بالتفاوُض، ثم يجد أوباما نفسَه مضطراً للاعتذار أمام quot;إيباكquot; عن سوء الفهم الفظيع الذي وقع فيه من استنكروا مبادرته، والتي كاد يتراجعُ عنها أو عن بعض مبادئها!

إنّ هذه الوقائع كُلَّها تفرض على الأميركيين والأوروبيين تحركاً سريعاً قبل نهاية يوليو، لإرغام الطرفين على العودة للتفاوض حول قضايا الوضع النهائي: القدس والمستوطنات والحدود واللاجئين. ويملك العربُ من المناورة الآن، ما لا يملكه نتنياهو. فلو وجدوا أنّ العرض التفاوُضي مقبول؛ فذلك لا يعني إسقاط إمكانية الذهاب إلى الأُمم المتحدة، إذا أوقفت إسرائيل التفاوُض بسبب الاستيطان أو الزعم بيهودية القدس! إنما لا شكَّ أنّ هذه الوقائع تفرض الحسْم اليوم وليس غداً في المسألة السورية؛ لأنّهم يريدون شريكاً في سوريا من أجل الجولان، ومن أجل السلام الشامل.