مالك التريكي


إذا كان الإعلان العالمي لحقوق الإنسان هو النص التأسيسي للثقافة المعاصرة في مجال الحقوق والحريات، فإن منظمة العفو الدولية هي بمنزلة الضمير العالمي الساهر على قيم هذه الثقافة. وإذا كان الإعلان العالمي هو البيان الجامع المانع لجوهر ما يحفظ الكرامة الإنسانية في مطلق أحوال الوجود الاجتماعي والسياسي، فإن منظمة العفو هي بمثابة 'ديوان المظالم' في هذه الحضارة التي لا تزال في أول أطوار النشأة: حضارة الكرامة الإنسانية المتجذرة في أخلاقية الحق في الحرية، وفي إطلاقية المساواة بين الجميع أفرادا وأقواما، أجناسا وألوانا.
بدأت القصة بمقال نشره المحامي الإنكليزي الشهم بيتر بننسون يوم 28 أيار (مايو) 1961 في جريدة الأوبزرفر البريطانية، بعنوان 'السجناء المنسيون' ليجلب الانتباه لمحنة الأشخاص الذين يقبعون في السجون في مختلف أنحاء العالم لمجرد أنهم عبروا عن آرائهم تعبيرا سلميا. وكان الذي حدا ببننسون إلى نشر المقال أنه قرأ في الأخبار أن طالبين برتغاليين حكم عليهما بالسجن سبعة أعوام بتهمة شرب 'نخب للحرية' في بلاد كان يحكمها الطاغية سالازار. أثار المقال سيلا من الردود. وليس هذا بمستغرب من قراء إحدى أعرق الجرائد الليبرالية في العالم (كانت الأوبزرفر، على سبيل المثال، هي الجريدة البريطانية الوحيدة التي ناهضت العدوان الثلاثي على مصر عام 1956). وما هي إلا أسابيع حتى كانت 'مناشدة العفو' التي أطلقها بننسون قد فعلت فعلا غير متوقع، سرعان ما أثبت التاريخ أنه فعل تأسيسي. حيث نشأت في عدد من البلدان جماعات وطنت العزم على الفضح الممنهج لانتهاكات حقوق الإنسان والعمل الدؤوب على الضغط على السلطات من أجل إنهاء هذه الانتهاكات.
ورغم تشكيك المنتقدين آنذاك في إمكان نجاح هذا المسعى، ومضي بعضهم إلى حد وصف فكرة منظمة العفو بأنها 'من كبريات شطحات الجنون في هذا العصر'، فقد صار اسم منظمة العفو منذئذ مرادفا لنصرة كل مظلوم. ولا يتأتى حسن سمعة المنظمة من نبل غايتها الأخلاقية (فضح الانتهاكات ونشر ثقافة الحريات) فحسب، بل إنه يتأتى أيضا من ثبات مصداقيتها المعرفية. حيث أنها تلتزم دقة المعلومات التزاما. أسماء وعناوين وأحداث وتفاصيل، أغلبها مؤلم فاجع، مستقاة من بؤر البغي والقهر والعذاب بعد بحث منهجي صبور قد يستغرق الشهور بل الأعوام الطوال. نصف قرن من الرصد المثابر والتوثيق الشاق. أكثر من 3340 بعثة تقص للحقائق في مختلف أنحاء العالم وحوالي 17 ألف تقرير. أما التقرير السنوي، الذي يترجم إلى أكثر من 25 لغة، فإنه المرجع الأول لأي صحافي أو باحث في شؤون الحريات.
ولعل من أسطع الأدلة على مدى نفوذ منظمة العفو، التي لديها اليوم ثلاثة ملايين من الأعضاء في 150 بلدا، أن جورج بوش اضطر لإلغاء زيارة لسويسرا أوائل هذا العام عقب دعوة فرع المنظمة هناك إلى القبض عليه والتحقيق معه بتهمة 'المسؤولية الجنائية عن ارتكاب أعمال تعذيب'. ولا شك أن 'العولمة الأمنية' التي فرضها بوش على العالم بأسره منذ أيلول (سبتمبر) 2001، والتي لا تزال مستمرة في شكل حالة طوارىء دولية دائمة باسم 'الحرب على الإرهاب'، قد أثقلت كاهل المنظمة بمزيد من الأعباء لأنها أدت إلى مزيد من هدر الحقوق الإنسانية في كثير من الدول وإلى تراجع مساحات الحق والحرية حتى في الدول الديمقراطية.
ذلك أن من مفارقات اللحظة التاريخية الحالية أن هنالك ترابطا بين انتشار العولمة وانحسار العالمية! إذ إن الممارسات المتفشية منذ بدء عهد 'العولمة الأمنية' قد كرست نوعا من الميز في مجال حقوق الإنسان هو النقيض المطلق لما قام عليه الإعلان العالمي ولما تناضل في سبيله منظمة العفو. وقد تمثل الأبارتهايد الجديد في اعتراف الدول الديمقراطية للدول العربية بـ'امتياز' انتهاك حقوق مواطنيها، بل وفي طلب خدمات خاصة منها في هذا المجال، تسليما إثنوغرافيا بوجود 'استثناء عربي' يبارك هدر الكرامة البشرية باعتباره من متوارث السنن الحميدة، ويتطلب التعذيب الوحشي باعتباره من صميم 'الخصوصيات الثقافية'. لكن الثورات الشعبية العربية، التي ناصرتها منظمة العفو ولا تزال، قد قلبت جميع الموازين والمفاهيم. ولهذا كتبت المنظمة في مقدمة تقريرها السنوي الجديد، الذي صدر الشهر الماضي، أنها 'تتخذ من (...) تصميم مئات الآلاف من التونسيين العاديين (...) مصدرا للإلهام'.