أمجد عرار

عندما يتفاقم المرض وتظهر أنواع غامضة منه ويتحوّل إلى وباء يحبس الناس في قفص الهوس، يكف عن كونه شأناً صحياً ويصبح شأنا سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، بل قضية أمن وطني وقومي وإنساني، وماذا يعني الأمن إن لم تكن في جوهره صحّة البشر وحياتهم؟ لا تفصلوا صحّة الجسد عن أمن البشر، ولا تشيّدوا جدراناً بين الصحّة والسياسة .

في الخامس من يونيو/حزيران ،1967 تعرّض النظام الرسمي العربي لهزيمة مدويّة هزّت أركان الأمة التي ذرفت من الدموع ما انتزع من الدماء لونها، وأفقدها مناعتها القومية . وفي الخامس من الشهر نفسه عام ،1981 تعرّضت البشرية كلها لهزيمة صحية ساحقة أمام مرض نشأ على نحو غامض أفقدها المناعة الجسدية المكتسبة، وإذ عجز الأطباء عن إيجاد علاج له حتى اليوم، فإنهم في لحظات منحوه مسمى ldquo;إيدزrdquo; . ومنذ ظهوره أو إظهاره، أي خلال ثلاثين سنة، قتل هذا الفيروس، الذي لا يرى بالعين المجردة، ثلاثين مليون إنسان .

لم نتحرر بعد من هذا الاستعمار الفيروسي المميت الذي انضمت إليه جحافل فيروسات وجراثيم معادية، وتحالف جنون بعض البشر مع جنون البقر ليبعث فينا الهلع وجنون القلق . كانت الإنفلونزا تصيب إنساناً ولا تستدعي منه التغيّب عن العمل، لكن عندما تمرّدت على عدم تطوّرنا، تطوّرت هي وأصبحت مميتة، وأدخلتنا في معركة مع الطيور لحماً وبيضاً وريشاً، لدرجة أن عازف العود هجر عوده خوفاً من انتقال العدوى من ldquo;الريشةrdquo; . وقبل أن نتصالح مع الدّجاج داهمنا الهوس الصحي الناجم عن اجتياح إنفلونزا الخنازير للعقول قبل الأجساد، وها نحن ندخل في حالة تأهب من مرض جديد سببه جرثومة اسمها ldquo;إي-كولايrdquo; .

خمسة عشر شخصاً فقدوا حياتهم في ألمانيا لكن الإصابات فيها وفي أوروبا عموماً بالمئات، وخبراء الصحة يتّهمون الخضراوات الإسبانية، خاصة الخيار، المسؤولية عن ظهور المرض الجديد، ما يعني أن إسبانيا ستخسر 200 مليون يورو في الأسبوع .

أجواء من الهلع الشديد بدأت تنتشر في العالم، وكالعادة قفزت للأذهان اتهامات لفعل فاعل بشري، ذهب الأمر بأحد الباحثين إلى حد الاعتقاد بوجود ldquo;مخطط إرهابيrdquo; وراء انتشار جرثومة ldquo;إي-كولايrdquo; .

يقفز السؤال سريعاً في الذهن: كم أعار دعاة حقوق الإنسان أهمية لصحة التلميذ قبل حقه في انتخاب عريف الصف؟ وكم سخّر أصحاب الكارتيلات والاحتكارات المالية العابرة للقارات من مساهمات مالية لحماية حياة الناس من هجمات الفيروسات التي من حق الناس أن يشكوا بأنها مصنّعة؟

مليارات الدولارات تذهب في صناعة القتل وقصف سكينة الناس واستنزاف دموع الأطفال وسلبهم طفولتهم وبراءتهم وحقّهم بأمومة وأبوّة . المليارات تنفق في تسليح الحروب، وفي الأغلب يلجأ تجار السلاح لتلقيم كل الأطراف المتقاتلة، باسم الحرية والديمقراطية . أي حرية وحق اختيار تمنحوهما لمصاب بالإيدز فقد إحساسه بالحياة؟

لن يحتاج فقراء هذا الكون لنعمة العلم كي يدركوا أن جزءاً بسيطاً من ميزانيات القتل والدمار وتلقيم المدافع، يكفي لإعادة البسمة لملايين الناس من ضحايا التجارب النووية والبيولوجية، ولن يحتاجوا لعبقرية صانع الموت النووي آينشتاين لكي يعرفوا أن صندوق الإغاثة قبل صندوق الاقتراع . وإذا كانت آخر هجمات المرض تأتينا من الخيار الإسباني، فإننا نخشى أن تأتي العدوى المقبلة من إحدى مباريات ريال مدريد وبرشلونة .