الياس حرفوش


بالنسبة الى الرؤساء العرب، بات هم الاحتفاظ بكرسي الحكم في اهمية حجز مقعد على اول طائرة مغادرة. لم تترك الانتفاضات العربية فرصة كبيرة للاختيار. مرحلة جديدة لم يعتد الحاكم العربي عليها. شعوب تطالب بحقوقها وبكرامتها. والرد عليها لا يكون الا بالرصاص الذي يستدعي الرصاص في بلدان مدجّجة. ومخاطر الحرب الاهلية هي النتيجة الوحيدة المتاحة من مواجهة كهذه.

اعتاد الحاكم الصمت من شعبه على مدى عقود، وعندما بدأت موجة الاحتجاجات والانتفاضات فوجيء ان سلاح الخوف لم يعد كافياً لاسكات المحتجين. حتى الشعارات laquo;القوميةraquo; وخطب laquo;الممانعةraquo; لم تعد تصلح للتغطية على المطالب والحقوق المؤجلة. وفي عصر صار فيه كل من يحمل كاميرا او هاتفاً جوالاً او جهاز كومبيوتر مراسلاً متجولاً، لم يعد حجب الخبر والصورة ممكناً. الحقيقة صارت اسرع من الصوت. والعالم الذي كان مستعداً في السابق لعقد الصفقات، لم يعد قادراً على التسوية والقبول بالتعامل مع انظمة ترد على مطالب شعوبها بسلاح القتل.

كانت الشعوب العربية هي التي تغادر والحاكم هو الذي يبقى ويحكم سعيداً ومديداً. مدن العالم امتلأت على مدى العقود الماضية بمواطنين عرب هجروا بلدانهم بحثاً عن فرص عمل وحياة كريمة لا توفرها لهم دولهم. ولم يشكل ذلك يوماً مصدر قلق لحاكم. على العكس كان يعتبره تخفيفاً لعبء اقتصادي تتحمله هذه الدول عنه، وتريحه من مشاكله.

اليوم، الحاكم هو الذي يغادر او يستعد للمغادرة. عينه على معاونيه، ومن منهم يهيء نفسه للانقضاض عليه عندما تسنح الفرصة، والعين الثانية على منفى لا يزال متوفراً يسمح له بالتقاعد بعيداً عن مطالب الشعب ومتاعب الحكم.

هناك من laquo;يحسدونraquo; زين العابدين بن علي. ليس فقط لأنه laquo;فهمraquo; على شعبه، بل ايضاً لأنه فهم ان سلوك الطريق الى المطار اسهل من سلوك الطرق الاخرى. لو ادرك علي عبدالله صالح ذلك قبل فوات الاوان، واستجاب للمبادرة الخليجية، لكان وفر على نفسه مغادرة بلاده جريحاً.

يكتشف الحاكم علاجات متأخرة لعلها تسمح باطالة عمر النظام. مراسيم عفو. وقوانين جديدة للاحزاب. اطلاق سجناء ولجان حوار. لكن الشعب يدرك، من خلال التجربة، انها علاجات مزورة، ويدرك ان التأخر في الاعلان عنها لا يوحي بأن الهدف هو العلاج بقدر ما هو اطالة عمر النظام وابقاء القديم على حاله.

كتاب جديد تنفتح فصوله في التاريخ العربي. كتاب لم نعتد ان نقرأ شيئاً يشبهه. شباب عرب يفاجئوننا بشجاعتهم وباستعدادهم للموت في سبيل حريتهم. ومن الطبيعي ان يفاجيء ذلك الحاكم ايضاً. وان لا يترك امامه فرصاً كثيرة وخيارات متعددة. هكذا يصبح الخروج من القصر هو الاقل ضرراً له والافضل لمستقبل شعبه. اما الكتاب العربي الجديد، فلا يكفي لاكتمال فصوله ان يخرج الحاكم فقط. عقود طويلة عانت خلالها الشعوب العربية من القمع ومن نقص المناعة الداخلية. وهذه لا تتوافر الا من خلال قناعات عميقة بالديموقراطية والليبرالية وباحترام حق الآخر في ان يكون مختلفاً. هناك عقبات كثيرة على طريق مستقبل افضل، كما ظهر الى الآن في كل من تونس ومصر. والخوف ان لا تستدعي وجوه المستقبل ما يدعو الى الترحّم، في يوم من الايام، على سواد الماضي.