عبد الباري عطوان


وقفنا منذ اللحظة الاولى مع الثورات العربية ومطالبها العادلة في تغيير انظمة ديكتاتورية قمعية فاسدة، واستبدالها بانظمة ديمقراطية تعيد للمواطن العربي كرامته، وتؤسس لنظام المؤسسات والمحاسبة والشفافية والقضاء العادل المستقل.
وكان طبيعيا ان يكون موقفنا نفسه تجاه الثورة الليبية التي اندلعت شرارتها الاولى في مدينة بنغازي ضد نظام الطاغية معمر القذافي الذي حول ليبيا الى مزرعة لاولاده واقاربه، وادار ظهره لقضايا الامة، ونقل ليبيا من انتمائها العربي الاسلامي الى الفضاء الافريقي للتحلل من اي مسؤولية تجاه امته التي ادعى انه احد ابطالها في بداية توليه للحكم من خلال انقلاب عسكري اطاح بالحكم الملكي عام 1969.
كتبت شخصيا اكثر من عشرين مقالا على الصفحة الاولى، او في زاوية 'رأي القدس' تأييدا للثورة الليبية، ولكن عندما بدأ حلف الناتو بزعامة الولايات المتحدة الامريكية التدخل في الشؤون الليبية عسكريا، وارسال البوارج الحربية وحاملات الطائرات الى السواحل الليبية، بدأنا نعيد النظر في موقفنا، ونبدي معارضتنا لهذا التدخل في وضح النهار، لاننا نحن الذين وقفنا ضد التدخل العسكري في العراق تحت غطاء تحرير الكويت عام 1990، ووقفنا في الخندق العراقي ضد الغزو ومن ثم الاحتلال، لا يمكن ان نقف مع غزو مباشر من قبل حلف الناتو لليبيا، وهو غزو بدأ تحت غطاء حماية المدنيين من مجزرة كان يعد لها نظام الطاغية معمر القذافي، وحماية المدنيين امر مشروع ومرحب به في ظل غياب اي تدخل رسمي عربي، خاصة بعد ان بدأت قوات الناتو تقصف مدنا ليبية بصواريخ كروز، وتقتل المئات من المدنيين، بل والعسكريين الليبيين الذين هم عرب ومسلمون، ويعتبرون اشقاءنا واهلنا، تماما مثل اشقائنا واهلنا في جميع المناطق الليبية الاخرى الواقعة تحت سيطرة حلف الناتو وحمايته.
عبرنا عن موقفنا المشكك في النوايا الانسانية لحلف الناتو في ليبيا على صفحات 'القدس العربي' وفي مقالات في صحف بريطانية بينها صحيفة 'الغارديان'، وكذلك عبر شاشة تلفزيون 'بي.بي.سي' باللغتين العربية والانكليزية، وتعرضنا بعدها لهجمات اعلامية شرسة، ومنظمة، تشرف عليها وتديرها شركات علاقات عامة امريكية وبريطانية وربما اسرائيلية ايضا، ازدادت شراسة، اي الحملة، بعد ان انتقدنا بشدة الرسالة التي نقلها الصهيوني الفرنسي برنار ليفي الى بنيامين نتنياهو رئيس وزراء اسرائيل نيابة عن المجلس الوطني الانتقالي الليبي، وكشف فيها 'عن نية المجلس الحفاظ على امن اسرائيل ومساندته مقابل العدالة للفلسطينيين، واستعداده لاقامة علاقات طبيعية مع جميع الدول الديمقراطية بما فيها اسرائيل'.
' ' '
بعد ايام معدودة من نشر هذا المقال الذي حظي بتأييد كبير من عشرات الآلاف من القراء العرب، وتناقلته مئات المواقع الاليكترونية، فوجئنا بتوزيع وثيقة 'مزورة' تتهمنا بتلقي مرتب شهري قيمته 4000 دولار امريكي كـ 'مكرمة' من العقيد معمر القذافي اعتبارا من عام 2008. ومن المؤسف ان محطة 'العربية' بثت صورة عن هذه الوثيقة الى جانب مواقع اخرى.
مثل هذا الاسلوب الرخيص والهابط لا يمكن ان يصدر عن جهة تقول انها تناضل من اجل اقامة نظام ديمقراطي يقوم على العدالة والشفافية وحرية التعبير واطلاق الحريات. وانما عن نسخة اخرى مشوهة عن نظام الزعيم الليبي الديكتاتوري الفاسد الذي تخصص في اغتيال الخصوم جسديا قبل اغتيال شخصياتهم.
انه امر محزن ان هؤلاء الذين يقفون خلف هذا العمل المخجل (الوثيقة المزورة) يلجأون الى التشهير الشخصي عندما تعوزهم الحجة ويخذلهم المنطق للرد على القضايا السياسية التي نتناولها في الحديث عن الوضع في ليبيا.
الاستاذ عبدالرحمن شلقم وزير الخارجية الليبي السابق الذي من المفترض ان تكون هذه الوثيقة صدرت عن مكتبه او وزارته، نشر مقالا في هذه الصحيفة، ردا على مقال انتقدت فيه التدخل العسكري الغربي في ليبيا، اكد فيه انني لم استفد ماديا بصورة مباشرة او غير مباشرة من النظام الليبي، والسيد شلقم، الذي اجل واحترم، يعرف جيدا ضخامة العروض المالية التي تلقيتها شخصيا من النظام الديكتاتوري ورفضتها دون تردد لمعارضتي لهذا النظام وسياساته.
هذه ليست المرة الاولى التي نواجه فيها مثل هذه الحملات القذرة، ولن تكون الاخيرة، طالما اننا مصرون على قول الحقيقة، والوقوف في خندق هذه الامة وقضاياها والعدالة والكرامة لشعوبها. ولن نسكت مطلقا عن اي نظام او مجموعة او 'ثوار مزعومين' يتملقون العدو الاسرائيلي، ويتخذون من انصاره وداعمي عدوانه على الامة اصدقاء ومستشارين، وابرزهم الفرنسي برنار ليفي الذي يعتبر حركة 'حماس' ارهابية، ويبرر العدوان الاسرائيلي على قطاع غزة الذي استخدم فيه الفوسفور الابيض لحرق 1400 مواطن عربي مسلم، وتدمير اكثر من ستين الف منزل وتشريد اهله.
ما لاحظناه في هذه الحملة التي نتعرض لها من قبل انصار المجلس الوطني الليبي، هو تطابقها بالكامل مع حملة اسرائيلية منظمة استهدفتنا وما زالت، تتهمنا بمعاداة السامية، وتأييد ضرب ايران لاسرائيل، من حيث الاتصال بالمحطات الغربية التلفزيونية لمنع ظهورنا على شاشاتها، وتحريضهم ضدنا، وهذا امر غير مستغرب طالما ان اقرب صديق لثوار الناتو هو الخواجة ليفي.
عندما وقفنا ضد العدوان على العراق اتهمنا مساندوه من عراقيين وغيرهم بتلقي اموال من الرئيس الشهيد الراحل صدام حسين، والحصول على كوبونات نفط، بل ذهب الراحل الدكتور احمد الربعي الى حد القول ان صحيفة 'القدس العربي' لن تستمر يوما واحدا بعد سقوط نظام صدام حسين، وها هي 'القدس العربي' مستمرة، وها هي قوائم كوبونات النفط واسماء المستفيدين منها متداولة للجميع.
' ' '
الذين استفادوا من اموال القذافي وعطاياه وكونوا ثروات تقدر بالملايين، هم الذين خدموا نظامه لاكثر من اربعين عاما، وكانوا يهتفون امامه دائما 'فاتح ثورة شعبية' ويدافعون عن نظامه بل وينفذون اوامره بقمع الشعب الليبي ومصادرة حرياته، وبعض هؤلاء نقلوا البندقية من كتف الى اخرى واصبحوا الآن يقودون 'الثورة' ضده، وليس نحن الذين لم تدخل صحيفتنا ليبيا على الاطلاق، ورفضنا العديد من الدعوات للقاء 'الزعيم' القذافي حملها الينا بعض الثوار الحاليين، بل توسل الينا بعضهم لقبولها، ووضعوا طائرات خاصة تحت تصرفنا.
ختاما، سنظل في خندق الشعب الليبي وثورته الشعبية الحقيقية النظيفة قبل ان يخطفها الانتهازيون عملاء الناتو، الذين يتعيشون على فتاته ويحتمون بدباباته. فنحن نعرف الشعب الليبي جيدا، واقتسمنا معه لقمة العيش، الكريم، ونشهد انه شعب اصيل في شهامته وعروبته، مخلص لدينه وعقيدته، ويملك تاريخا مشرفا في محاربة الاستعمار الغربي، وتقديم آلاف الشهداء، بقيادة قائده ومعلمه وشهيده الابرز عمر المختار، ويقيننا ان هذا الشعب الذي احببناه واحبنا، لن يقبل بان تخطف ثورته من قبل بعض المتسللين والانتهازيين.
هؤلاء الذين سربوا هذه الوثيقة المزورة، وتخفوا خلف اسماء مستعارة، واتصلوا بمحطات تلفزيونية غربية، وبريطانية خاصة، رفضت الاستماع اليهم ونشر الوثيقة، بهدف التحريض ضدنا، اذا كانوا واثقين من ان ما ينشرون هو حقائق، فليأتوا الى بريطانيا واتحداهم ان يجدوا صحيفة تنشر لهم اكاذيبهم، وان نشرت، فان القضاء البريطاني سيكون الحكم بيننا.
نحن لا نعمم هنا.. فهناك شرفاء كثيرون في صفوف الثوار والثورة، بل هم الاغلبية الساحقة، حديثنا هنا ينصب على الانتهازيين الوصوليين الذين سرقوا هذه الثورة ونصبوا انفسهم قادة لها على حساب الشهداء والجرحى، والمفجرين الحقيقيين للثورة في وجه الطاغية الكبير وابنائه الطغاة الصغار.
سنقاضي كل من حاول الاساءة الينا، في كل مكان يتوفر فيه القضاء العادل، لاننا اصحاب حق، وكنا نتمنى لو ان محطة العربية، ولنا فيها زملاء اعزاء، قد تحققت من هذه الوثيقة المزعومة، واتصلت بنا لاخذ وجهة نظرنا مثلما تقتضي الزمالة والاعراف والتقاليد المهنية، ولكنها لم تفعل.
نعاهد القارئ بان مثل هذه المحاولات لن ترهبنا، ولن تحيدنا عن خطنا وسنواصل مسيرتنا في دعم الشعوب وثوراتها الطاهرة لنيل حقوقها كاملة دون نقصان، فنحن لسنا طلاب مال والا لكنا نقف حاليا على ظهر دبابات الناتو او الدبابات الامريكية قبلها في العراق.