السيد يسين

هناك إجماع بين الباحثين عربا كانوا أو أجانب علي أن ثورةrlm;25rlm; يناير المصرية تتسم بسمات فارقة تميزها عن غيرها من الثورات التي اندلعت في التاريخ الإنسانيrlm;,rlm; وهي أنها ثورة بلا قيادة وبلا أيديولوجيةrlm;.rlm;

تري ما صحة هذا التوصيف, وإذا ما كان صحيحا فما هو تفسيره؟
لقد سبق لنا في مقالنا25 يناير في ضوء الثورة الكونية( الأهرام26 مايو2011) أن قررنا أنه يمكن لنا أن نتتبع جذور هذه الثورة الرائدة في التحولات الحضارية الكبري التي غيرت الملامح الأساسية للمجتمع العالمي. وأجملنا هذه التحولات في مفهوم الثورة الكونية, الذي يتضمن ثلاث ثورات متلازمة هي الثورة السياسية وشعارها الديمقراطية واحترام التعددية وحقوق الإنسان, والثورة القيمية وتعني الانتقال من القيم المادية إلي القيم ما بعد المادية, وأخيرا الثورة المعرفية وتعني الانتقال من الحداثة إلي ما بعد الحداثة.
لقد عالجنا من قبل كلا من الثورة السياسية والثورة القيمية, ونريد اليوم أن نعرض للتحول من الحداثة إلي ما بعد الحداثة, الذي يعبر عنه عصر العولمة التي بسطت رواقها علي كل أركان العالم ـ بالرغم من تعدد ثقافاته وتنوع تواريخه.
ولا شك أن أحد العوامل المهمة التي ساعدت علي قيام عصر العولمة ـ هو الثورة الاتصالية الكبري, والتي أبرز آلياتها البث التليفزيوني الفضائي الذي جعل البشرية جمعاء تعيش أحداث العالم السياسية والاقتصادية والثقافية في الزمن الواقعي لهاrealtime, مما ساعد علي تخليق وعي عالمي أصبح أحد العوامل المهمة في صياغة ثقافة كونية, أصبحت بقيمها الإنسانية تؤثر علي اتجاهات وقيم وسلوك البشر في كل مكان. وخصوصا في مجال خرق حقوق الشعوب وأبرزها قاطبة العدوان الإسرائيلي المستمر علي الشعب الفلسطيني, ومعاداة العنصرية, والوقوف ضد الحرب باعتبارها وسيلة لحل المشكلات الدولية.
غير أن شبكة الإنترنت ـ التي ترمز إلي قيام فضاء عام لأول مرة في تاريخ الإنسانية هو الفضاء المعلوماتيCybercpace ـ أحدثت انقلابا في الحياة الإنسانية المعاصرة.
فقد استحدثت أدوات جديدة مثل البريد الإلكتروني والمدونات والفيس بوك والتويتر, والتي أصبحت جميعا من الوسائل الفعالة في الاتصالات بين بني البشر, بالرغم من تعدد وتنوع الثقافات.
وأصبحت هذه الوسائل الحديثة في الاتصال أدوات فعالة في تبادل المعلومات وتداول الأفكار ونشر الدعوات الايديولوجية, بل وحشد الجماهير بمئات الألوف وراء قضية مركزية واحدة.
ولعل ثورة25 يناير تعد النموذج الأمثل لفعالية الفيس بوك كآلية للتعبئة الثورية والحشد الجماهيري, مما أدي- بعد التحام جماهير الشعب المصري بكل فئاته بالثورة- إلي النجاح في إسقاط النظام السياسي السلطوي المصري, وإجبار الرئيس السابق محمد حسني مبارك علي التخلي عن منصبه.
وفي تقديرنا أنه يكمن في الإنترنت أو ما يطلق عليه مانويل كاستلز, أكبر منظر معاصر للفضاء المعلوماتي مجتمع الشبكة, تفسير لماذا ثورة25 يناير بغير قيادة؟
وقد صاغ كاستلز نظرية متكاملة حاول أن يفسر بها القوانين التي تحكم مجتمع الشبكة. وهو ينطلق من فكرة أساسية مفادها أن شكلا جديدا للرأسمالية قد انبثق في نهاية القرن العشرين, وهي رأسمالية عفوية في خاصيتها, وقاسية في أهدافها, ومرنة أكثر بكثير من أسلافها.
وتواجه تلك النسخة من الرأسمالية تحديات في كل أنحاء العالم من جانب عديد من الحركات الاجتماعية, التي تنادي بالخصوصية الثقافية, وسيطرة الناس علي حياتهم وبيئتهم.
وذلك التوتر يوفر الدينامية المركزية لعصر المعلومات, حيث تنتظم مجتمعاتنا علي نحو متزايد حول التضاد بين قطبين رئيسيين:
الشبكة والذات.
والشبكة هنا ترمز إلي التكوينات التنظيمية الجديدة التي تقوم علي الاستخدام الواسع لوسائط الاتصال المشبكة, وخصوصا من قبل الشركات عالية التنافسية, وأهم من ذلك من جانب الجماعات والحركات الاجتماعية.
وفي المقابل ترمز الذات إلي النشاطات التي يحاول الناس من خلالها أن يعيدوا تأكيد هوياتهم السياسية أو الثقافية. وهذا يفسر طبيعة التفاعل بين آليات الاتصال المستحدثة( المدونات والفيس بوك والتويتر) وذوات البشر الذين يستخدمونها لأغراض التعبئة الثورية, أو الحشد الجماهيري كما حدث في ثورة25 يناير.
ونصل بعد هذا العرض الوجيز لطبيعة التفاعلات في الفضاء المعلوماتي إلي تفسير الحقيقة التي مؤداها أن ثورة25 يناير بلا قياده.
ويكمن هذا التفسير في أن التفاعل في مجتمع شبكة الإنترنت أفقي وليس رأسيا. بعبارة أخري الشبكة لا رئيس لها, والمتعاملون في رحابها لا يتلقون تعليمات أو توجيهات من أحد, كما أنهم- بشكل عام- لا يخضعون للرقابة المباشرة من قبل أي جهة. هم أحرار تماما يمارسون حريتهم في التعبير عن أنفسهم, كما هو الحال في المدونات والفيس بوك والتويتر.
وهذه المدونات قد تكون انطباعات ذاتية, أو تتضمن إبداعا أدبيا أيا كانت قيمته, أو تحمل في طياتها نقدا سياسيا عنيفا ضد المجتمع الأبوي بشكل عام, سواء تمثل في سلطة الزعماء السياسيين أو الأب في الأسرة, وضد النظم الشمولية والسلطوية بشكل مباشر.
وهناك أخلاقيات أصبحت راسخة يتم بها التعامل في الشبكة. فليس هناك متفاعل له مكانة أسمي من متفاعل آخر, الكل أنداد, ولا يخضعون لأي سلطة.
ويتسم التفاعل علي إرسالها الشبكة بدعوة الآخرين للتعليق علي النصوص, أو الاشتراك في النقاش. عادة ما يقابل متصفحو الشبكة العبارة التالية في نهاية مقال ما علق علي هذه المقالة أو لصديق.
وهكذا تتحول النصوص الفردية المتنوعة فكرية أو سياسية, إلي نصوص جماعية يشترك أفراد متعددون في إنتاجها.
والدليل علي ذلك أن مقالاتنا التي ننشرها في الأهرام أو غيرها من الصحف, عادة ما يعلق عليها عدد كبير من القراء, وقد تصل التعليقات في بعض الأحيان إلي خمسين تعليقا.
بعض هذه التعليقات تتعلق بتقييم ما كتبه الكاتب, وبعضها يناقش فيها القراء بعضهم بعضا علي الشبكة, معتمدين في ذلك علي النص الأصلي للكاتب.
وهكذا في إطار من الندية الكاملة للمتعاملين مع شبكة الإنترنت, يتم التفاعل بحيث لا يعد الكاتب الذي أنتج النص الأصلي أسمي مرتبة من المعلق.
ومن هنا يمكن تفسير أن ثورة25 يناير بلا قيادة, لأنها كانت محصلة تفاعلات مركبة وتشبيكات معقدة, استمرت فترة طويلة من الزمن, وتضمنت انتقادات بالغة الحدة والعنف ضد النظام السلطوي المصري, وانتهت هذه الانتقادات بالاتفاق علي النزول إلي ميدان التحرير يوم25 يناير, وهو يوم عيد الشرطة.
وهكذا اندلعت الانتفاضة الثورية علي يد شباب الفيس بوك, والتحمت بها جموع الشعب, فتحولت بحكم الملايين المشاركة إلي ثورة شعبية, قامت بغير قيادة وهدمت النظام القديم, وهي تحاول جاهدة بناء النظام الجديد.
مهمة عسيرة نظرا للافتقاد إلي قيادة موحدة للثورة.
وهكذا فقوة الانتفاضة الثورية التي قامت بغير قيادة معروفة مما ساعد علي نجاحها, لا يعادلها سوي تشتت الممارسة الثورية الحالية.
بعبارة موجزة, في اليوم التالي للثورة, لابد أن تظهر قياداتها الفعلية حتي لا يقفز عليها من لم يشاركوا أصلا فيها, أو من يدعون أنهم صناعها الحقيقيون!