يوسف مكي

نستقي عنوان هذا الحديث من رائعة للأديب الأمريكي الراحل، أرنست همنغواي . الرواية ldquo;لمن تقرع الأجراسrdquo;، تناولت الحرب الأهلية الإسبانية، التي قادها الجنرال فرانكو ضد الشيوعيين في بلاده . وقد برزت هذه الرواية كأعظم الروايات العالمية التي تناولت هذه الحرب، وترجمت إلى معظم اللغات الحية . فقد اختار همنغواي، الذي شغل وظيفة مراسل حربي، أن تكون حوادث الرواية وأزمنتها مسرح تلك الحرب .

قصة الحرب الأهلية الإسبانية ليست جوهر اهتمام هذا الحديث، ولكن ظروف تلك الحرب والموقف الغربي منها . كان الثوار يعملون على قيام نظام ديمقراطي في إسبانيا، على الطريقة الغربية . وقد تطلعوا إلى أن يحقق هذا النظام صبواتهم في العدالة الاجتماعية . وكان نصيب هذه الثورة هو السحق، وارتكاب جرائم مروعة، شملت ما يطلق عليه في القانون الدولي جرائم حرب ضد الإنسانية .

كان مفهوماً، وإن يكن غير مقبول، أن يقف الجنرال فرانكو، حليف النازيين والفاشيين ودول المحور، ضد قيام نظام ديمقراطي في إسبانيا أمر مفهوم . لكن موقف الغرب ظل حتى وقت متأخر، مثار استغراب وعجب . فالكل يعلم أن إسبانيا فرانكو تحالفت مع هتلر وموسولينيني ضد الحلفاء، وكان المتوقع ألا يختلف موقف الغرب من هذا الدكتاتور عن موقفهم من حليفيه في ألمانيا وإيطاليا . والأولى أن يكون مصيره كمصير مثيليه هتلر وموسوليني . ليس ذلك فحسب، فقد وقف فرانكو لعدة عقود في الخندق المعادي للقيم الديمقراطية التي ينادي بها الحلفاء . بمعنى أن جرمه من النوع المركب . جرم يتعلق بانحيازه الواضح للمحور في الحرب الكونية الثانية . وجرم آخر يتعلق بموقفه من حق شعبه في الحرية، والديمقراطية والتداول السلمي للسلطة . لكن الحلفاء تناسوا موقفه ذلك، وغفروا له ما تقدم من ذنبه وما تأخر . والسر هو أن فرانكو تصدى بجسارة لخصومهم الشيوعيين .

لم تكن الحالة الإسبانية فريدة في تاريخ النظم الرأسمالية الغربية . فقد تكررت تلك الحادثة مراراً وتكراراً في بقاع كثيرة، في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية . حدث ذلك في الخمسينات من القرن المنصرم، إثر انسحاب الفرنسيين من فيتنام بعد هزيمتهم في قلعة دان بيان فو، وحلول الأمريكيين محلهم، حيث دعمت الولايات المتحدة نظام فان ديام ضد تطلعات شعبه . وكانت حرباً طاحنة، من أشرس الحروب التي شهدها العالم أثناء الحرب الباردة . بدأت منذ عهد الرئيس الأمريكي جون كنيدي وتواصلت مع الرئيس جونسون، وتوقفت أثناء رئاسة ريتشارد نيكسون . وكانت خسارة الولايات المتحدة وحدها فيها، أكثر من خمسين ألف قتيل، ومئات الألوف من الجرحى، عدا الخسائر الهائلة في الأموال والمعدات، وقد انتهت الحرب بهزيمة منكرة للقوات الأمريكية في الهند الصينية، وكان للشعب الفيتنامي ما أراد .

تكرر ذلك أيضاً، في الستينات، حين ناصرت وكالة الاستخبارات الأمريكية، جنرالاً آخر، في إندونيسيا عرف بسوهارتو، أطاح في انقلاب عسكري، أحمد سوكارنو، الزعيم الوطني الذي قاد بلاده نحو الاستقلال . وكانت تكلفة القضاء على النظام السابق، وفقا لإحصاءات منظمات حقوقية دولية خمسمئة ألف قتيل وخمسة ملايين معتقل . لم تعتبر تلك المجازر وحملات الإبادة، من قبل الغرب جرائم حرب ضد الإنسانية، ولم تتقدم أية حكومة غربية باستنكار ما جرى من مجازر، بل قوبلت بعين الرضى، لأنها تكفلت بالقضاء على الشيوعيين في إندونيسيا . وإذا عرف السبب بطل العجب . تكرر المشهد مرة أخرى في تشيلي، حين أطاح جنرال عسكري يعرف ببينوشيه، نظاماً منتخباً ديمقراطياً، قاده سيلفادور الليندي . وقد تحقق الانقلاب بدعم مباشر من وكالة الاستخبارات الأمريكية، وكان الثمن مئات القتلى، بضمنهم الرئيس الليندي نفسه، وأكثر من خمسين ألف معتقل . ومرة أخرى، وقفت أعرق الديمقراطيات في الغرب مع جرائم القتل والإبادة وللسبب ذاته، هزيمة الشيوعية .

في الحالات الثلاث التي أشرنا لها، استمر الجنرالات، فرانكو، سوهارتو، بينوشيه في الحكم لعدة عقود، يحظون بالرضى والدعم الأمريكي، إلى أن تغيرت ظروف سياسية، أدت إلى انتقال إسباينا وإندونيسيا وتشيلي مرة أخرى سلمياً إلى النظام الديمقراطي .

تكررت هذه الحالات مع دول كثيرة في القارات الثلاث، بدءاً من غواتيمالا إلى الدومينيك وباكستان وغانا وغينيا والهند الصينية والكونغو وبنغلادش، وكثير غيرها . وكان المحرك للمواقف الأوروبية والأمريكية في نصرة الأنظمة الدكتاتورية، هو نفسه المحرك لنصرة بعض الأنظمة الديمقراطية، إنه حساب الأرباح والخسائر، وهي وحدها التي تستحق الاعتبار، في حسابات الأنظمة الرأسمالية . وكان الضحايا في تلك الانقلابات زعماء قادوا بلدانهم نحو الحرية والاستقلال . إنها ليست، إذاً، قيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان ومبادئ العدل، التي تحكم موقف الغرب من أي نظام سياسي في العالم، ولكنها لغة المصالح والأرقام . ووفقاً لهذه اللغة، لا توجد تحالفات ثابتة، فليس في العلاقات الدولية ما يدعى بالصداقة الدائمة، بل هناك مصالح وهيمنة وصراع إرادات .

نقرع الأجراس، لأن تجربتنا التاريخية، أكدت أن التدخلات الأجنبية في شؤوننا قد هدفت لتفتيت الأوطان وخلق الفتنة، وقيام أنظمة في منطقتنا على أسس المحاصصات والقسمة بين الطوائف، وبعث الهويات ما قبل التاريخية . وأداور القوى الخارجية، في تشريد شعب فلسطين وإقامة الكيان الصهيوني الغاصب في أرض السلام، وتدمير العراق كياناً وهوية، وإعادة تأسيسه على أساس القسمة بين الإثنيات والطوائف لا تزال ماثلة أمامنا .

الحرية الحقيقية والعدل الاجتماعي، هي مكاسب تحققها الأمة بإرادتها وحراكها، وبفعل تطورها التاريخي، وتراكم نضالاتها، وليست منحة تقدمها قوى العنصرية والغطرسة .

في ربيع الثورات نقرع أجراس الإنذار، بأننا إذا لم نسارع لاحتواء مشكلاتنا وحل قضايانا بأنفسنا، فليس أمامنا سوى المزيد من التشظي والخراب . لا نريد تكرار التجربة الليبية في أي موقع عربي آخر . فالحرية الحقيقية التي تتطلع إليها شعوبنا العربية، هي التي ترتبط بالأمن والسلام والاستقرار والرخاء، والعيش الكريم وليست تحويل بلداننا العربية إلى حلبة لصراعات العشائر والقبائل والطوائف .

نريد يمناً سعيداً، آمناً مستقراً يسهم مع أشقائه العرب في مسيرة التضامن العربي نحو التكامل والتنمية والرخاء، ونريد سوريا عربية مقاومة، تواصل دورها الحضاري في مسيرة النهضة، ويتمتع فيها كل فرد بكامل حقوقه، وبخاصة حقه في الأمن والاستقرار والحرية . وأن تكون عاصمة الأمويين عنصراً فاعلاً ومؤثراً في حماية الأمن القومي العربي، وتحقيق التكامل الاقتصادي والسياسي مع بقية الأقطار العربية، على كل الصعد . ونريد ليبيا حرة موحدة من الشرق إلى الغرب، بعيداً عن قصف القنابل والتدخلات الخارجية، والصراع بين أبناء البلد الواحد . نريد أن تكون بلداننا العربية، واحة للأمن والرخاء، وأن تنجز أمتنا مهماتها الحضارية بسواعد أبنائها، واعتماداً على قدراتها الذاتية، ولهؤلاء جميعاً الذين يهتمون بقدر أمتهم وبحقها في الحياة الحرة الكريمة تقرع الأجراس .

[email protected]