سلمان الدوسري

إليكم هذه القصة: تزوج سعودي ألمانية شقراء. الزوج يملك متجرا يديره بنفسه، وتساعده زوجته. شيئا فشيئا أصبحت المرأة من يدير المتجر، دون الزوج، الذي تفرغ لأعماله الأخرى. كانت الفتاة الألمانية تجلس أمام مكتبها، تبيع للزبائن طوال النهار. عملاؤها كانوا من كافة شرائح المجتمع؛ رجالا ونساء وأطفالا، لشهور طوال قاربت السنة استمرت هذه الفتاة في ممارسة عملها دون مضايقة، لا من أفراد المجتمع ولا من جهات أخرى. المفاجأة هنا ليست أن القصة حقيقية وحدثت في مدينة الخبر السعودية. المفاجأة أنها حدثت قبل نحو أربعين عاما تقريبا.. تصوروا!

لعل الغرابة في قصة هذه المرأة الأوروبية العاملة، عدم استنكار أي كان حينها لعملها، على الرغم من أنها لم تكن ترتدي العباءة أصلا. كان الجميع متقبلا لوجود امرأة تبيع ويشترون منها. تخيلوا لو صحا الناس في السعودية غدا على خبر أن امرأة تبيع في محل ما؛ ما الذي سيحدث؟ قلنا: صحوا على خبر، وليس كما صحا الناس، قبل أربعين عاما، على مشاهدة امرأة شقراء تمارس عملا اعتادوا أن يمارسه الرجال فقط، ومع هذا تقبله المجتمع حينها، ولا يتقبله اليوم.

هذا الأسبوع شهدت السعودية قرارات مفصلية أصدرها خادم الحرمين الشريفين، لعل أبرزها كان تنفيذ قصر العمل في محلات المستلزمات النسائية على المرأة السعودية. القرار سيفتح الباب أمام دخول نحو نصف مليون سعودية لسوق العمل خلال السنوات الخمس المقبلة؛ من يصدق أن نصف مليون وظيفة كانت ستُحرم منها المرأة السعودية، وستذهب لعمالة أجنبية من الذكور، لولا تدخل حاسم من أعلى سلطة في البلاد، لا لشيء إلا لأن هناك من يضغط باتجاه الممانعة وترويع المجتمع واتخاذ سلطة فوق سلطة الدولة؟!

أكبر خطر يهدد المجتمع السعودي تحوله إلى مجتمع يخشى من الإقصاء، وذلك عندما يتقلص دور الغالبية لصالح أقلية لا تقبل بأي دخول على الخط من أي طرف يعارضها. خاصة إذا كان رفضها ينافي العقل والمنطق. وللدلالة على التناقض الذي ابتلينا به، ما نشرته laquo;الشرق الأوسطraquo; في يناير (كانون الثاني) الماضي، عن عمل النساء في منطقة حائل بمجال البيع في منافذ تجارية؛ حيث تصطف النساء السعوديات ليمارسن البيع بعيدا عن الجدل الدائر بخصوص عملهن وفتاوى التحريم. إذن؛ كيف استطاعت المرأة في حائل أن تفعل ذلك، ولم تستطع المرأة نفسها في مكان آخر من المدن السعودية؟ إنه المجتمع الذي يساند أو يقف متفرجا.

القضية اليوم لا تتعلق بمنع النساء من العمل من عدمه، فهذا أمر لا بد للمجتمع نفسه من فرضه؛ طال الزمن أو قصر. القضية الحقيقية هي تحول قضايا هامشية إلى أزمات، وإدخال الفتاوى في قضايا مجتمعية بالدرجة الأولى، وعدم قبول الآخر، وتخوينه، وفرض طيف واحد لا ينبغي لأي كان أن يخرج عنه. لم يكن هذا هو المجتمع السعودي إطلاقا، لكن هكذا أراد له البعض، وبدلا من أن تتطور المجتمعات، شأنها شأن المجتمعات الأخرى، نجد أن الآية أصبحت معكوسة؛ فثقافة المجتمع تتراجع أميالا للخلف. غالبية القضايا الجدلية تئن تحت وطأة قاعدة واحدة، وهي غلبة العادات على العبادات، فأصبح هناك من يحسم قراره؛ ليس بناء على رأي ديني فقط، بل لتراكمات العادات والتقاليد التي أصبحت هي التي تسير هذا الرأي أو ذاك.

يقول ابن خلدون: laquo;اتباع التقاليد لا يعني أن الأموات أحياء بل أن الأحياء أمواتraquo;. هذه القاعدة ربما يمكن تطبيقها على كثير من الظواهر الاجتماعية التي تجتاح مجتمعاتنا، ومن ضمنها رفض بعض فئات المجتمع لعمل المرأة، حتى في المحلات النسائية؛ فكلما رفعت راية العقل، رفعت بالمقابل رايات عدة، وألبستها لباس العادات أو التقاليد أو حتى الدين.

[email protected]