علي الرشيد
رغم مرور أكثر من ثلاثة أشهر على بدء حركة الاحتجاجات الشعبية في سوريا والنظام السوري لا يزال يصرّ على رواية رسمية يقوم الإعلاميون القريبون منه بتكرارها وإعادة استنساخها صباحا مساء على القنوات الفضائية بقوالب مملة دون أن يستطيعوا إقناع الجماهير المنتفضة في الشوارع أو دول الجوار أو المنظمات الحقوقية والإنسانية العالمية أو المجتمع الدولي بها.
الرواية الرسمية للأحداث الآخذة بالازدياد كميا والاتساع جغرافيا تتلخص بما يلي:
ـ الاعتراف الخجول بحركة الاحتجاجات المطالبة بالحرية والكرامة والعدالة والديمقراطية والتعتيم ما أمكن عليها، والتقليل من شأنها كميّا ونوعيّا، وحصرها بمطالب خدمية.
ـ الإصرار على صبغ هذه الحركة الجماهيرية بالإرهاب والأعمال المسلحة، في محاولة لتشويه وجهها السلمي الجميل وتبرير قمع السلطة المسلح لها.
ـ تبرئة ما تقوم به قوات الأمن وquot;الشبيحةquot; التي تدور في فلكها من مواجهات عنيفة للمتظاهرين وامتهان كرامتهم، وما يترافق مع ذلك من قتل وتدمير واعتقالات وتهجير وتشريد، فمن يقتله الجيش هو قطعا من العصابات المسلحة، ومن يقتل من المدنيين فإنما يقتل على يد هذه العصابات، ومن يضطر للجوء إلى تركيا أو لبنان فهو من هذه العصابات المتورطة وأتباعها أيضا.
ـ هناك حركة إصلاحات شرعت بها الحكومة والنظام وعلى المعارضة والمحتجين إعطاء الفرصة لها، وقبول الانخراط فيها، كمخرج وحيد للأزمة.
ـ الإصرار على ربط الأحداث بمؤامرة خارجية تستهدف سوريا.
والسؤال الذي ينبغي أن يتبادر إلى ذهن النظام ويفترض أن يجيب عنه بصدق: لماذا لا أحد يصدق روايته، داخليا وخارجيا؟ وما أسباب ركوب رأسه وإصراره عليها، وما المخاطر التي تترتب عليه وعلى الشعب السوري بسبب الانسياق وراءها؟
لقد سقطت الرواية الرسمية للنظام منذ الوهلة الأولى لأكثر من سبب:
ـ فرض طوق أمني وإعلامي على الأحداث الدائرة هناك، والمعلومات المرتبطة بها، حيث لا ينقل النظام في وسائل إعلامه إلا ما يريده هو فقط، وعلى هذا الأساس يحظر على وسائل الإعلام العربية الكبيرة أو العالمية حتى الآن الوصول إلى مناطق الأحداث وتغطية ما يجري فيها، كما يمنع على المنظمات الحقوقية والإنسانية من داخل البلاد من الوصول إليها، ولا تلبّي طلبات المنظمات الدولية والأممية المماثلة لزيارة سوريا لرصد ما يجري على الأرض، وتقديم المساعدات الإنسانية والإسعافية عند اللزوم.
ـ ظهور ما يناقض الرواية الرسمية إعلاميا، فالصورة التي تنقل وتوثّق ما يجري في مناطق الأحداث عبر النشطاء بشكل مباشر عبر الإنترنت أو بشكل غير مباشر عبر اليوتيوب وغيره من تقنيات الإعلام الجديد ومنها للفضائيات.
وكثير من هذه اللقطات كانت محرجة للنظام، سواء في امتهان كرامة المحتجين وإهانتهم، أو الكشف عن عناصر من قوات الأمن والشبيحة تطلق النار على المحتجين، أو استخدام الدبابات والطائرات لحصار المدن الثائرة واقتحامها، أو عرض بعض المشاهد المؤلمة للشهداء والجرحى ومن تعرضوا للتعذيب.
ـ ظهور شهادات حقيقية تناقض ما يدعيه النظام، ومن هؤلاء شهود عيان من المواطنين من أرض الميدان التي كشفت عن سقوط وقتل المدنيين على يد قوات الأمن أو الجيش، وشهادات الصحفيين العرب والأجانب الذين تم اعتقالهم أو توقيفهم عن التعذيب في المعتقلات، والأقوال الموثقة للاجئين الذين فروا من سوريا إلى لبنان وتركيا والأردن عمّا تعرضوا له أو شاهدوه، وشهادات من قرروا ترك عملهم في الجيش من الضباط وصف الضباط بسبب ممارسات الجيش في مواجهة المحتجين السلميين.
ـ ظهور تقارير لمنظمات حقوقية وإنسانية دولية، تكشف عن حجم انتهاكات النظام لحقوق الإنسان في سوريا، والممارسات اللا إنسانية ضد المحتجين وتصريحات شخصيات دبلوماسية وسياسية (خصوصا تركيا) تكذّب علنا الرواية الرسمية للنظام.
إن إصرار النظام في سوريا على الإمعان في روايته الرسمية، وتكذيب كل ماسواها، ما هو إلا محاولة بائسة يائسة للتغطية على تعامله الأمني مع الأزمة القائمة وتبرير استخدامه المفرط للقوة تجاه المحتجين السلميين في الساحات، ومحاولة منه لاستدرار العطف والتأييد الدوليين باعتباره يكافح الإرهاب، رغم أن هذا لن يجديه نفعا، لأن هذه الرواية منذ البداية لم تقنع أحدا من أبناء الشعب الذين يعيشون الواقع على الأرض، أو أحدا في الخارج، وقد صارت لعبة مكشوفة بعد أن سبقه إلى استخدامها النظامان المصري واليمني.
وخطورة هذا المسلك أنه لا يقدم حلاّ لمشكلة، بقدر ما يؤجج نارها ويقود إلى مضاعفات خطيرة بسببها، ولا يتوقف ضرره على النظام بل يمتد للوطن والشعب.
ولا شك أن النظام الذي يعتمد سياسة الأرض المحروقة والعقاب الجماعي في التعامل مع شعبه الثائر على الظلم والاستبداد، ويجد نفسه عاجزا عن إجراء إصلاحات وبخاصة بعد أن ولغ في الدماء، سيعمد إلى المضي قدما في هذه السياسات وهذا الأداء الإعلامي المصاحب لها حتى آخر المشوار على طريقة quot;أنا أو الطوفانquot;.. ولكنّ ذلك لن ينقذه من ورطته الكبيرة بقدر ما يضاعف كلفة التغيير على الشعب والوطن.
قال تعالى quot; والله غالبٌ على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمونquot;
التعليقات