وائل مرزا

أربعة عقود مضت على الأقل والغالبية العظمى من السوريين تعيش مهمشة. وضعهم الانقلابيون باسم الثورة والتصحيح وغيرها من الشعارات على هامش التاريخ.
laquo;صبر الشعب السوري حين قيل له إن ثمن صبره هو التحرير. عانى وقاسى المرارات حين أقنعوه بأن فلسطين هي القطب الذي تشير إليه بوصلة المسيرة، وأن المسيرة المذكورة تتطلب التضحية بالكثير، ليس فقط فيما يتعلق بلقمة عيشه وخبزه اليومي، وإنما أيضا بحريته التي يمكن أن تؤدي إلى الفوضى وتشويش مسيرة التحرير الكبير.
صبر الشعب طويلا حين حدثوه عن laquo;ثورةraquo; ستأتي بالتنمية والتقدم والازدهار، ثورة تمحو التخلف والرجعية، وتحارب المرض والجهل والفقر، تُشعر الإنسان بعزته وتعيد له كرامته المفقودة، تهزم التبعية والانكسار، وتوفر للوطن أسباب القوة والمنعة.
ذكروا للشعب الصابر أن الثورة ستأتي بالتحرير. وما إن يأتي التحرير حتى يأتي معه الرخاء بعد عناء المقاومة الطويل المرير. يأتي الرخاء والتنمية فيضمن للسوري رغيف الخبز، ويضمن له قبله قيم الحرية والعدالة والكرامة والمشاركة وسيادة القانون.
مرت الشهور ومعها السنوات والعقود، فلم يسمع الشعب إلا الوعود، ولم ير إلا الاحتفالات بثورة كلامية لا يرى لإنجازاتها أثرا على أرض الواقعraquo;.
حاولت النخبة السياسية السورية أن تتحرك منذ عقد من الزمان. أدرك هؤلاء أن الوضع لم يعد طبيعيا ولا يحتمل السكوت، فجاء ربيع دمشق القصير المعروف، ثم لم تلبث أن تمضي أسابيع إلا وكان أصحابه بين المنافي والسجون والمعتقلات.
حركت تلك النخبة بالتأكيد الراكد السوري بشكل أو بآخر على مدى عشر سنوات. قامت بما تستطيع القيام به في ظل القيود والظروف والمعادلات التي كان يفرضها النظام السوري، ومعه النظام الإقليمي والعالمي. لكن الأقدار كانت ترسم مخططا آخر.
جاء ربيع الثورات العربي، وسقط بن علي وبعده مبارك. لم يحدث هذا صدفة. ولم يكن نتيجة مؤامرات خارجية. وإنما جاء استجابة طبيعية لجملة مقدمات تاريخية واجتماعية وسياسية سيأتي الحديث عنها بالتفصيل في مقالنا القادم.
واستجابة لنفس المقدمات، تحرك الجيل السوري الجديد الذي عرف أن وقت استلامه للراية قد حان.
خرجت الإشارة الأولى في مظاهرة منطقة الحريقة في دمشق بتاريخ 17 فبراير تنادي (الشعب السوري ما بينذلّ) احتجاجا على قيام أحد رجال الأمن بالتعدي على مواطن عادي.
كان الشباب السوري يعرف تماما ما ينتظره. كانوا يدركون أنهم يعيشون في ظل نظام لا يمكن مقارنته من جهة الوحشية والقمع بنظامي بن علي ومبارك. كانوا يعرفون أن قنابل الغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي هي لون من ألوان (الترف) بالنسبة للنظام، وأن استخدامها في نظره هو مجرد مضيعة للوقت لا أكثر ولا أقل.
ورغم كل هذا، حملوا أرواحهم على أكفهم، وبدأت الملحمة السورية الكبرى مع مظاهرة سوق الحميدية في قلب دمشق يوم الخامس عشر من مارس، حين خرج مئات من الشباب يهتفون لأول مرة في تاريخ سورية المعاصر قائلين: (وينك يا سوري وينك) و (سلمية.. سلمية) و (الله.. سوريا.. حرية.. وبس).
ومن تلك اللحظة إلى يوم الأربعاء السابق، عاشت سورية أعظم 100 يوم في تاريخها المعاصر.
عرف شباب سوريا أنه لم يبق أمامهم إلا أن يفرضوا عودتهم إلى التاريخ فرضا، فقاموا بكل ما يجب عليهم القيام به لتحقيق ذلك الهدف.
المفارقة التاريخية أن سوريا شهدت خلال الأيام المذكورة تطبيقا حقيقيا لكل الشعارات التي كان النظام ينادي بها زيفا وادعاء على مدى عقود.
أظهر السوريون خلال هذه الفترة المعنى الحقيقي لمقولة أن سوريا هي (قلب العروبة النابض)، فالقلب هو العضو الحساس في الجسد، وهو الذي يجب أن يقاوم بكل ما يستطيع ليبقى الجسد حيا، مهما كانت الهجمة عليه قوية وشرسة.
قاوم الأبطال في تونس ومصر واليمن كما يليق بتاريخهم وثقافتهم، لكن مقاومتهم لم تكن في مواجهة ذلك النوع من العنف الدموي الذي رآه العالم في سوريا. وقاوم الأبطال في ليبيا قمعا دمويا من نوع آخر، لكنهم اضطروا لأن تكون مقاومتهم عسكرية ومسلحة. في مقابل ذلك، بقي أبطال قلب العروبة النابض يقاومون الآلة الأمنية والعسكرية الفتاكة بصدور عارية وقبضات مرفوعة وحناجر تصدح مؤكدة على سلمية الثورة إلى النهاية.
شهدت الفترة المذكورة، وأيضا للمرة الأولى في تاريخ سورية المعاصر، عقدا اجتماعيا للوحدة الوطنية كتبه السوريون بدمائهم قبل هتافاتهم. وكما ذكرنا في مقال سابق، ظهر على أرض الواقع تطبيق حقيقي للشعار التاريخي القائل (بالروح.. بالدم.. نفديك يا..) حين laquo;أصبح مألوفا أن تخرج التظاهرات في حمص مثلا وهي تنادي (بالروح بالدم نفديك يا درعا). فيخرج المتظاهرون وقد حملوا أرواحهم على أكفهم بكل ما في الكلمة من معنى في مواجهة القتل والرصاص الغادر، ويسقط منهم شهداء افتدوا درعا بدمهم وروحهم. افتدوها عمليا وبأعز ما يملكون وليس بالشعارات الفارغة. ثم تخرج في اللاذقية تظاهرات تنادي (بالروح بالدم نفديك يا حمص). ومرة أخرى، يفدي شهداء آخرون حمص بدمهم وروحهم، وهذه المرة من اللاذقية. وتتكرر القصة في درعا وجبلة وبانياس وحماة ودوما والتل وغيرها من مدن القطر السوري وقراه صغيرها وكبيرها. فتنظر إلى المشهد فتراه باهرا آسرا في إنسانيته التي تبلغ أسمى ما فيها على مستوى الوحدة الوطنية، رغم منظر الدماء المؤلم على مستوى الأفراد والأشخاصraquo;.
وفي هذه الفترة، انفجرت طاقات السوريين وظهرت تجلياتها في ألف مجال ومجال. تجلت في ميادين التنسيق بين الثوار في الداخل، وبينهم وبين أهلهم وأبناء وطنهم في الخارج، فظهرت فكرة التنسيقيات الفريدة في كل مكان. وتجلت في القدرة على إيصال صوت الثورة وصورتها إلى العالم بأسره، رغم كل الصعوبات الأمنية والتقنية. وتجلت في إجماع نادر على مبادئ أساسية تتمثل في السلمية واللاطائفية ورفض التدخل العسكري الخارجي، وتحديد الدولة المدنية الديمقراطية هدفا واحدا وموحدا للجميع. وتجلت في أعمال فنية لا نهاية لها تهدف إلى خدمة الثورة معنويا وإعلاميا وسياسيا بكل طريقة ممكنة.
هكذا شهدت سوريا أعظم 100 يوم في تاريخها المعاصر. هكذا أعاد السوريون تعريف أنفسهم وتعريف وطنهم. لهذا، لم يكن غريبا أن يعتصم أبطال دير الزور ليلة (جمعة سقوط الشرعية) وهم يهتفون بأغنية (موطني)، فيكون هذا تجليا آخر من تجليات ملحمة سورية كبرى يبدو من جميع الدلائل أنها تعرف طريقها وهدفها بوضوح، وأنها مصممة للوصول إليه بعزيمة وإصرار.