يوسف الديني


كان الامتحان الأصعب للمعارضة السورية الداخلية، وهو تعبير يكاد يلامس التجديف السياسي في بلد كان، إلى وقت قريب، يشعر المعارض المقيم في بلدان أجنبية بقلق كبير جدا على أمنه الذي لا يتوقف على شخصه؛ بل يتعدى ذلك إلى الشعور بالرعب أن يطال اختياره السياسي قائمة طويلة من شبكة معارفه القريبة وكل ما يمت له بصلة في الداخل بسبب الحالة الأمنية الفريدة التي تمتع بها النظام السوري طوال العقود الماضية واتكأ فيها على واقع يلامس حدود الخيال في التعامل الأمني المخيف.

لا شك أن خوض شخصيات معارضة في الداخل، مهما أخذنا المجاز في فهم تركيب كهذا في سوريا بما يفوق المائتي شخص للبحث عن سبل دولة مدنية في فندق وسط العاصمة دمشق، يعتبر حدثا دراماتيكيا غير مسبوق، لكن كلمات الحضور والتغطية الإعلامية لهذا الحدث والسجال الفكري النخبوي الذي لم يضع فقط العربة قبل الحصان في بحثه لحدود الدولة المدنية قبل البحث عن مأزق توقف حالة البطش والملاحقة الأمنية والقتل المجاني للمتظاهرين؛ بل تجاوز ذلك إلى تعبيد طريق الحصان بمنمنمات تشبه كثيرا الكلمات المنمقة الباذخة في بلاغتها ومجازيتها والتي وردت على لسان الرئيس السوري، ومع ذلك كله فإن إدانة القمع، ولو بكثافة أقل من تجريم التحريض الطائفي أو رفع سبابة الاتهام تجاه الممارسات التي تحث على أي تدخلات لقوى أجنبية في الداخل السوري، يعتبر مفصلا نوعيا في طريقة تعاطي الداخل السوري مع الأزمة أو لنقل أنحاء السلطة أمام الاعتراف بوجود معارضة نوعية وليس مجرد شغب جماهيري محكوم عليه بالعمالة أو الإرهاب والتجييش الطائفي في مقابل تشكل لبنة معارضة يمكن أن تمرر حديثها المغاير لموجات التصفيق والتطبيل، ولو اقتضى ذلك أن تخلطه بالكثير من التوجس.

لكن السؤال الأهم في حدث laquo;معارضة الداخلraquo; هو الخوف من تحوله - بقصد أو بغير قصد - من سياق طبيعي لما آلت إليه الأمور في الشارع السوري إلى ثمن لكل تلك الدماء التي سالت منذ اندلاع الاحتجاجات في أغلب مناطق سوريا، فثمن كهذا يأتي متأخرا وبأثر رجعي؛ حيث كرة الثلج التي لا يمكن أن تتوقف، لا سيما إذا علمنا أن معارضة الداخل على عكس نظيراتها في الثورات السابقة واللاحقة ليست متصلة بالشارع، وهذا لا يعني أنها منفصلة عنه بقدر أنها تعبر عن كيانات لم يكن لها أي دور في السابق ويفترض منطقيا ألا تحصل على دور فاعل وحيوي، وقد كتبت لها الولادة داخل الأزمة؛ حيث لا تسعف أجواء الثورات المرتبطة عادة باللامركزية في إدارتها وأجندتها بحكم انطلاقها من رد الفعل، وهذه نقطة غائبة عن laquo;معارضة الداخلraquo; والخارج، فوجود كيانات سياسية تعبر عن أحزاب مترهلة أو في حالة موات داخلي أو معارضة شكلية في الخارج مدفوعة للحياة بأجهزة تنفس خارجية لا يمكن لها بحال أن تضبط إيقاع الداخل المتغير بشكل يومي حسب وتيرة الأحداث وطريقة التعاطي الأمني العنيف.

من هنا، فإن المرشح، على الرغم من كل الهالة الإعلامية لمعارضة الداخل، هو تحول هذه الكيانات بوصفها كائنا محدد الملامح إلى أداة انقسام لمطالب الإصلاح الحقيقية التي يقودها الشارع، والتي لا يمكن أن تأخذ طريقها إلى الواقع في حال افترضنا وجود رغبة حقيقية من النظام إلى نزع فتيل الأزمة إلا بعد أن توقف حمام الدم، وهو خيار واضح ومحدد وبيد السلطة وحدها.

اللقاء تزامن مع إشارات كثيرة قبله وبعده من الولايات المتحدة في تثمين تحرك كهذا، حتى بلغ الأمر بأن تصف أميركا موقفها من الاجتماع، عبر المتحدثة باسم وزارة الخارجية، بأنها حدث مهم وغير مسبوق، وإذا كان الشطر الثاني من التصريح مفهوما بحكم فرادة وجود معارضة من الداخل تجتمع بشكل معلن في دمشق، إلا أن وصفه بالأهمية يجب فهمه في سياقه الأميركي وربما الغربي الذي يجنح إلى التعامل مع كيانات محددة مستفيدا من تجربة الثورات السابقة؛ حيث لا يمكن الرهان على ما تؤول إليه الأمور في الشارع؛ إذ يمكن رصد الحركة من دون تحديد، فضلا عن التعامل مع المحرك، وبالتالي لا يمكن أن ينتج عن تلك الأهمية - خارج سياق دبلوماسية الأزمات - أي تغييرات في الواقع المحكوم بتغيير جذري.

دون تبسيط للواقع السوري المعقد، فإن خطوة معارضة الداخل يجب أن تناقش قضية أساسية لا يمكن القفز عليها بمناقشات حول حدود الحريات في الواقع السوري، بل يجب أن يطرح موضوع الحل الأمني ومسألة موقف وطريقة تعامل السلطة من المظاهرات السلمية كنقطة أولى تليها مناقشة إمكانية وضع برنامج للتحول الديمقراطي للسلطة دون أن يكون حزب البحث الممثل الأوحد الذي لا شريك له فيها.

الأكيد أن اتكاء السلطة على روايات العصابات المسلحة التي تقود المتظاهرين وتحكم الشارع أو انخفاض سقف معارضة الداخل عن مطالب الشارع سيعمق الفجوة، بل وسيجعله تحت مرمى نيران الشعب الذي سيرى فيه مجرد بوق للنظام يسهم في تفتيت قوى الشعب المتحدة ضد الحل الأمني.

من جهة ثانية، فإن laquo;معارضة الداخلraquo; في حال تحولها إلى كيان سياسي وسطي في قراءته للأزمة مرشحة للتصادم مع أطياف المعارضة في الخارج والمتمركزة في تركيا بدعم من الحكومة التركية التي لا تتماهى بالضرورة مع الرؤية الأميركية النزاعة إلى محاولة الخروج من الأزمة عبر الضغط على النظام لإجراء مزيد من الإصلاحات، فالتباين بين الرؤيتين يعود إلى اعتبار الولايات المتحدة الأزمة السورية حتى هذه اللحظة أزمة إصلاح سياسي، بينما بدأت الرؤية التركية تميل إلى اعتبارها أزمة هوية سياسية وبين الرؤيتين ألوان متدرجة بحكم طبيعة التحالفات التي خلقها النظام السوري اعتمادا على موقع سوريا المهم ودورها الأهم في الخارطة الإقليمية.