سلامة كيلة


رغم شدّة القمع الذي يمارس ضد المتظاهرين، واستخدام القوة العسكرية والرصاص الحي، لا يبدو أنّ الانتفاضة في سورية تتراجع. فالأعداد تتزايد، والمناطق تتوسع، حتى المدن التي تستباح عسكريّاً تعود لتتظاهر من جديد. هناك قطاع من الشعب، يتوسع باستمرار، قرر التظاهر من أجل التغيير، وهو لا يزال مصمماً على ذلك، رغم كل العنف الذي يواجه به. وهناك السلطة التي قررت منذ البدء استخدام كلّ قوتها العسكرية من أجل ألا تتوسع التظاهرات، وأن يُرعَب الشباب من خلال القتل والاعتقال والتعذيب العنيف في السجن.

ولا شك في أنّه ليس كلّ الشعب يتظاهر، بل إنّ نسبة الذين يتظاهرون ربما تصل إلى 10% من الشعب مثلاً (وهذا مهم إذا قارنا ذلك بنسبة الذين انتخبوا كل مؤسسات الدولة، إذ لم تبلغ النسبة تلك)، لكن قيمة هذه النسبة تتمثل في أنّها تقوم على تراكم احتقان يطاول ما يقارب الـ80% من الشعب. ذاك الذي أفقر نتيجة البطالة (30% من القوى العاملة)، والفقر نتيجة الأجر المنخفض جداً (ربما 40% من القوى العاملة، وربما أكثر). وبالتالي، فإنّ عدم المشاركة هو نتاج laquo;الرعبraquo; الذي يوجده العنف الذي يمارس، لكن يمكن أن يشارك هؤلاء في لحظة ما. وهو ما يظهر في المدن التي تعرّضت للعنف وتمردت، إذ نجد أنّ الشعب كلّه يشارك في التظاهرات. إلى الآن، هناك ما يمكن أن نطلق عليه توازناً بين قوة الشعب المشارك وقوة السلطة. ولهذا لا تزال التظاهرات على قوّتها، بل تتصاعد وتتوسع. لكن لا يزال العنف على أشده، إذ تنتقل القوى العسكرية من مدينة إلى أخرى.
اللافت هو أنّ المدن التي تجري السيطرة عليها عسكرياً تعود إلى التظاهر حال انسحاب الجيش منها، أو تبقيها السلطة تحت الحصار العسكري/ الأمني لمنع تظاهرها. ولهذا بات واضحاً أنّ هناك مناطق laquo;خارج السيطرةraquo;، بمعنى أنّ كل سكانها باتوا يشاركون في الانتفاضة، مثل حوران، والرستن وتلبيسة، ومعرّة النعمان ودير الزور وحماة. في ضوء ذلك، كيف يمكن أن تتطوّر الانتفاضة؟ هل سينكسر وضع التوازن لمصلحة السلطة أم لمصلحة الشعب، أم لن يكون ممكناً كسره؟ وبالتالي، هل يمكن أن ينحرف الصراع إلى دهاليز الطائفية، أو ينجرّ إلى ما يسمح بالتدخل الإمبريالي؟ المسألة تتعلق بقوة الشعب وصلابته، وهذا ما يظهر واضحاً، وبالتالي بالزمن الممكن لاستمرار هذا التوسع في الحراك. فتلك الصلابة ستفتت قوة السلطة بنحو طبيعي، حيث القدرة المالية للدولة باتت مهزوزة، وتوسيع فرق الجيش التي تدخل الصراع سوف يظهر العجز عن السيطرة عليها أمنياً، فهي تخضع لسيطرة أمنية في تحركاتها، وفعلياً، نتيجة كون هؤلاء الجنود والضباط هم من الشعب الذي بات يُسحق في كلّ المدن والبلدات التي ينتمون إليها. بمعنى أنّ السلطة لن تبقى على قوتها التي بدت عليها خلال الفترة الماضية، وإذا كانت قوتها لم توقف الشعب عن الحراك فإنّ تراجع قوّتها سوف يدفع الحراك إلى التصاعد أكثر. لهذا تكمن الأولوية الآن في الدفع بالانتفاضة إلى الأمام، وعدم استعجال تقديم الحلول، فهذا يربك الانتفاضة ذاتها لأنّه يزيد من تردد المترددين، بدل انخراطهم فيها. ولا شك في أنّ كلّ حديث السلطة عن الحوار هو من أجل ذلك، أي من أجل القول بأنّ الأمور تصل إلى حل عبر الحوار، وليبقى المترددون في أماكنهم. وهنا لا بد من ملاحظة مجمل المشكلات التي تعوق التوسع الشامل للانتفاضة من أجل حلّها، هذا هو المهم الآن.
إذن، في إطار التوازن الراهن نلمس أنّ الزمن يدعم تصاعد قوة الانتفاضة رغم كلّ ما يمارس من عنف. وهذا يفتح على تغيير مهم في ميزان القوى، لمصلحة الانتفاضة. لكن هنا تُطرح مسألة الشكل الممكن للتغيير، هل هو الشكل المصري أم الشكل اليمني أم شكل جديد؟ وما هي البدائل؟ هل طرح مسألة الدولة الديموقراطية كافٍ، أم أنّ الوضع يفرض أكثر من ذلك؟ هذا ما يمكن أن يُفتح النقاش حوله. لكن ما يلفت الانتباه هو وجود نخب تعتقد بأنّ الأمور تنجرف إلى الفتنة، كما سماها الصديق ميشيل كيلو، أو إلى الصراع الطائفي، كما يشار في الغالب، أو تسير نحو مأزق لأنّ طرفي الصراع لن يستطيعا الحسم، وبالتالي تدخل سوريا في نفق من التآكل. يفرض هذا التحليل الاستعجال في المبادرة إلى تقديم حلول، والمبادرة إلى فتح خطوط من أجل انتقال سلس للسلطة، تحت إشراف السلطة ذاتها (أو بالتعاون مع بعض أفرادها). وإذا كان من الخطأ الفادح على تطوّر الانتفاضة التخويف والاستعجال لأنّه يزيد من تردد المترددين في المشاركة، فلا بد من أن نلمس أنّ الوعي الماضي يتحكم في تحليل الحاضر لدى تلك النخب. فلا يبدو أنّ النخب لمست أساس الانتفاضة، وظلّت تنطلق من أحلامها، ففهمت الانتفاضة انطلاقاً من ذلك (الحرية والكرامة)، وبالتالي ظلّت في وعي ماضوي، لتصل إلى تحليل ماضوي، أي تجاوزه الواقع. فلا شك في أنّ مشكلات تقف في وجه توسع الانتفاضة، منها تخوف بعض الفئات الاجتماعية من المآل الذي يمكن أن تؤدي إليه. فما بديل إسقاط النظام؟ وما الأهداف التي يتظاهر كل هؤلاء من أجلها؟ ولماذا تخرج من الجوامع، وتكرر شعارات laquo;دينيةraquo;؟ لقد لعب الإعلام الرسمي دوراً في التخويف، من خلال فيلم المجموعات السلفية والإمارات السلفية، ومن خلال تخويف الطوائف. ويمكن أن يصعّد في هذا السياق دفاعاً عن سلطة المال والأمن. لكن هل هذا الاحتمال ممكن؟ وهل، بالتالي، ليس من خيار سوى الإصلاح، أو الحوار أو أي كلمة يمكن أن توضع في هذا الموضع؟
حين تكون الفرضية خاطئة، ستكون النتيجة فاسدة. إنّ سوء فهم الظروف التي أفضت إلى الانتفاضة، سيقود حتماً إلى استمرار التحليل القديم الذي ظلّ يرى الصراع الطائفي أو التبلور الطائفي، حتى دون تحديد في ما إذا كان أساسه قائماً. لكن حين يصل الوضع إلى مرحلة القول إنّ الفئات المفقرة والمهمشة تبادر إلى الانتفاض، سيصبح واضحاً أنّ الصراع سياسي بامتياز، وهو صراع مع السلطة، ومن ثم يسقط كل الحشو الثقافي الذي تفرضه الأديان والطوائف، ويصبح الهدف هو إسقاط السلطة. ما هو في قاع الانتفاضة هو الإفقار والبطالة والتهميش، وهو الذي فرض منطقاً جديداً بات يحكم وعي الشباب الطبقات الشعبية. ويشمل ذلك كل الطبقات دون ميل إلى تصنيف طائفي أو ديني، لم تعد هناك حاجة إليه، نتيجة توضّح الصراع، كصراع ضد سلطة تمثل فئات راكمت الثروة. وإذا كان هناك من شك بدايةً في هذا الأساس، وتخوّف طائفي، فإنّ صيرورة الصراع ستوضح أنّ المسألة تتعلق بذلك تحديداً، أي بأن الانتفاضة هي نتاج الوضع المتشابه لدى كل هؤلاء، بغض النظر عن لغو النخب، وتخويف السلطة، والخوف الكامن الذي يسمح في لحظة بنجاح خطاب التخويف. الخوف الكامن من مواجهة حقيقة أنّ المطلوب بات يتمثّل في الانتفاض من أجل التغيير. لهذا لن تقود التخوّفات، وربما التعصب الأوّلي، التي برزت في الفترة الماضية، إلى تطوّر يفضي إلى صراع طائفي. على العكس، سوف يتوضح في سياق تطور الانتفاضة أنّ المسألة المطروحة هي مسألة سلطة ونهب وفساد، تعانيها كلّها كل الطبقات المفقرة، بغض النظر عن طوائفها وأديانها، وأنّ المسألة بالتالي تتعلق بنظام بديل. نظام اقتصادي وسياسي، وليس تغيير شكل السلطة فقط، أو ترقيعها. فالإفقار العام نتج من استغلال شكل السلطة الاستبدادي، من أجل النهب الاقتصادي وتركيز الثروة بيد قلّة تتحكم بالقرار الاقتصادي والسياسي والأمني. هذا الفهم هو الذي يزيد من توسّع الانتفاضة، ويوصلها إلى مفاصل قاتلة تفرض التغيير. بالتالي، ما لا بد منه هو التركيز على تطوّر الانتفاضة وتجاوز التخوفات، ووقف التخويف النخبوي. الأفق لا يزال مفتوحاً، والتغيير حتمي، بعد كلّ هذه الصلابة والقوة التي تمتلكها الطبقات الشعبية. فلم يعد من خيار سوى التغيير.