محمد جابر الأنصاري

بعد أن تصور الباحثون عن التغيير أن الأمر قد حسم بخروج أو تنازل رأس النظام السابق في كل من تونس ومصر، يلاحظ المراقب انه لم يتم laquo;حسمraquo; أي وضع آخر، ومازال القتلى يسقطون، أو المحتجون يطالبون بالتغيير، في ليبيا واليمن وسوريا. وحتى في تونس ومصر الوضع الحقيقي - في العمق - بعيد عن الحسم. ومازالت المصادمات والاعتصامات جارية والاحتمالات القادمة لا تبدو كما أرادها أو يريدها laquo;الثوارraquo; الرومانسيون! وحدها البحرين، التي يحاول بعض المحللين من laquo;الثورجيةraquo; في الفضائيات البعيدة عن الواقع، أو ذات الأجندات الخاصة، اقحامها في هذه laquo;الظاهرةraquo; التي هي على العكس منها تماما، حيث بدأ laquo;الربيع البحرينيraquo; قبل أن نسمع عن laquo;الربيع العربيraquo; بسنوات! فمثلا، أبلغ الرئيس الفرنسي ساركوزي الأمير سلمان بن حمد آل خليفة ولي العهد البحريني الزائر ان فرنسا تدرك أن الديمقراطية في البحرين بدأت قبل المطالبات العربية الحالية بالديمقراطية، (والفرنسيون من الصعب أن ينال المرء منهم اقراراً بحقيقة!) أو كما قال عبدالرحمن الراشد، وهو معلق سياسي مشهود له بالمصداقية: laquo;... وفي تجربة البحرين الحديثة في السنوات العشر الماضية هامش لم تمر بمثله أي دولة أخرى في الخليج من الحريات والتمثيل السياسي الحزبي والنيابي، ولا أعتقد أن القوى الشعبية البحرينية الأساسية، شيعية أو سنية ستضحي بمكاسبها بالجري وراء شعارات طائفية....الخ) (الشرق الأوسط 6-7-2011). ويمكن الرجوع أيضا في الصدد ذاته إلى تحليلات الكاتب والمفكر الكويتي الكبير د. محمد الرميحي بشأن الأوضاع في مملكة البحرين. هذا فيما يتعلق بالبحرين المفترى عليها، أما الدول العربية الأخرى كليبيا واليمن وسوريا، فقد أصبح التوجه للحوار هو سيد الموقف (وذلك ما ستحتاجه أيضا تونس ومصر!) فالأمر لم يحسم بعد، ولابد من حوار أو laquo;حل سلميraquo; يوصل الى نهاية متفق عليها وإلا - وهذه هي الملاحظة الأولى - فإن البديل هو الحرب الأهلية التي لا يريدها أحد.... إن القوى الدولية المعنية تدعو لحوار الإصلاح والأنظمة الحاكمة المعنية تعمل من أجل ذلك، تفاديا للمزيد من العنف .... ولابد من laquo;صنعاraquo; وان طال السفر! روسيا تقول انه من laquo;غير المقبولraquo; توجيه اللوم الى طرف واحد في الصراع، والسكوت عن الطرف الآخر. وروسيا عضو دائم في مجلس الأمن، أي تمتلك حق الفيتو، ويبدو انها قررت العودة الى الساحة الدولية كلاعب مستقل، له حساباته الخاصة. كما أن الصين وهي قوة دولية صاعدة لها موقف خاص بها. ثمة اعادة نظر جذرية وجدية فيما يحدث في العالم العربي. يقول كاتب حصيف من أبناء هذه المنطقة :raquo;هناك من يريد أن لا يرى فيما جرى في البدان العربية إلا ثورة من أجل الحرية والديمقراطية في أزهى صورها... لذلك فهؤلاء لا يعجبهم انفجار العنف الطائفي والجماعات الدينية الارهابية، واكثر صور التزمت الفقهي، بشكل اكثر حدة بعد الثورات العربية.. وسيحاول (هؤلاء) صرف النظر عن هذه الحقيقة وتأويلها بأي طريقة تخفيفية أو مؤامراتية (مشاري الذايدي، الشرق الأوسط 8-7-2011). وفي اتجاه معاكس لما كتبه من قبل نجد الصحفي البريطاني المختص بشؤون الشرق الأوسط باتريك سيل، يرى أن الديمقراطية تحتاج الى أجيال لتتحقق، وان laquo;الابتعاد عن العنف هو استراتيجية أكثر فاعلية من استخدام القوة من أجل اقناع الأنظمة الاستبدادية بتغيير مسارها. ومن الأفضل دفع الناشطين في الربيع العربي أن يأخذو في الاعتبار رسالة عبدالغفار خان، وهو قائد ديني مسلم وسياسي سابق في شبه القارة الهندية، دعا الى معارضة غير عنيفة على laquo;طريقة غانديraquo; (الحياة:8-7-2011). أما الملاحظة الثانية، فهي التواتر في تصريحات بعض المسؤولين الغربيين من أن حركات laquo;الربيع العربيraquo; قد أجهضت laquo;القاعدةraquo;. ولا نرى أن المسألة تنحصر في هذا التنظيم أو ذاك. فربما أدت ظروف خاصة بتنظيم ما الى استئصال ِشأفته. ولكن العبرة في غلبة الاتجاه العام الذي يندرج ضمنه ذلك التنظيم. إذا كان المقصود من تصريحات أولئك المسؤولين الغربيين أن الاتجاه الديني المتشدد قد انحسر فالمؤشرات الموضوعية تدل على العكس من ذلك. إن عدم بروز الاتجاهات الدينية المتشددة في تحركات laquo;الربيع العربيraquo; لا يعني اطلاقاً أن هذه الاتجاهات في طور انحسار. فهي كامنة في العمق وستظهر في الوقت المناسب وهؤلاء المراقبون الغربيون ربما كانوا يفكرون في laquo;مواسم انتخابيةraquo; معينة كُلّفوا بالإعداد والاستعداد لها... إن الولايات المتحدة قد أعلنت انها تحاور تنظيماً دينياً بعينه في القاهرة. كما أن المفاوضات الغربية غير المباشرة مع عناصر من laquo;طالبانraquo; جارية على قدم وساق.. وعندما تدمر ثورة ما نظاماً حاكماً وجهازه الأمني، فان ذلك يعني تحريراً للقوى التي يحاربها ذلك النظام وجهازه. وهذا لا يخلي الأنظمة الفاسدة من المسؤولية، فهي مسؤولة عن انهيارها وفسادها. لكن هذه ملاحظة موضوعية بشأن انحسار أو عدم انحسار القوى المتطرفة. أما الملاحظة الثالثة والأخيرة، فتتعلق بحقيقة موقف الغرب مما يجري في العالم العربي. إن النظم القديمة المتهاوية ضعيفة أمام الغرب واسرائيل. ولكن الغرب واسرائيل يريدان أنظمة عربية أضعف. وقد قيل بابتهاج، في الاعلام الغربي والاسرائيلي، ان المتظاهرين لم يهتفوا ضد الغرب واسرائيل، بل ضد حكامهم الفاسدين، ومن أجل متطلبات معيشية. وذلك يدل على انهم غير معنيين بالموقف من اسرائيل ودعم الغرب اللامحدود لها. إن الغرب معنيٌّ بمصالحه قبل كل شيء، فلا يوجد أصدقاء أو أعداء دائمون، بل مصالح دائمة. وإذا ما أثبتت الأنظمة الجديدة انها متعاونة مع الغرب - وثمة مؤشرات عدة على ذلك - فتلك هي النتيجة المتوخاة غربياً. وإلا، فإن الثورات - حسب المنطق الغربي - التي جاءت بتلك الأنظمة ، ثورات منحرفة فاشلة كما سيخبرنا الإعلام الغربي، بعد قليل! ...تلك هي ملاحظات ثلاث من الوضع العربي الراهن: التوجه نحو laquo;الحوارraquo; فليس المطلوب انتصار طرف على آخر، والنظرة الخاطئة أو الملتبسة بشأن الموقف الغربي من القوى المتطرفة ومدى تشجيع الغرب لها، ثم لماذا هذا laquo;الموقف الغربيraquo; غير المنتظر مما يجري في العالم العربيraquo;.... وتلك محاولة لرؤية الحقائق - موضوعيا - قدر الامكان قبل أي شيء.