محمد الباهلي

أهم ما يمكن استنتاجه من تجارب الأمم التي حققت مستوى عالياً من التطور والتقدم، سواء في أوروبا أو أميركا أو آسيا، هو التشابه والتقارب في الوسائل والطرق الموصلة إلى النهوض، حيث نجد أن غالبيتها كانت تركز على محور التعليم وجودته، وتضع لذلك استراتيجية واضحة وسياسة صحيحة، كما عملت على تشجيع البحث العلمي والإكثار من مؤسساته، وتحفيز روح الاكتشاف والمغامرة والابتكار والإبداع والاختراع. كما حرصت هذه التجارب على بناء شخصية وطنية، ديناميكية وقوية، تمتلك روح الإبداع والمبادرة ومهارة العمل والإتقان، وذلك بإرساء حرية الفكر والبحث والتعبير، وعبر تهيئة البيئة المناسبة للإبداع والاجتهاد والتضحية.

والأمر المهم هنا، أن هذه الأمم لم تتخل عن خصوصياتها وثوابت هويتها وهي تسلك طريق النهضة؛ فلم تذب في حضارة الآخر، ولم تقف متجمدة عند حالة النقل والاستيراد، بل وضعت لنفسها جدولا زمنياً للانتقال نحو مرحلة الاستقلال الحضاري والاكتفاء الذاتي الذين يجعلانها سيدة قرارها، وذلك بإقامة الصناعات الوطنية، وتوطين العلوم والمعارف والتقنيات. نجد ذلك في تجربة الصين، وقد لخصه quot;رن زيخ كيوquot;، الباحث في الأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية بقوله: quot;إنه لا ضمان لتحقيق ما نصبو إليه من استقرار الصين ورخائها ما لم يؤد الإنتاج الحالي إلى مجتمع مفتوح يتمتع بسوق ناضجة وديمقراطية، تأخذ خصوصية الصين وطابعها بعين الاعتبارquot;. لذلك اعتبر quot;لي لانكينغquot;، النائب السابق لرئيس الحكومة الصينية، في كتابه quot;توفير التعليم لـ1.3 مليار إنسانquot;، أن التخلي عن سياسة الإنتاج المحلي يمثل خطراً على الأمن القومي، وأن إهمال تسويق السيارات الصينية يساوي في خطورته تخلي الصين عن صناعة السيارات. وحين زار جامعة quot;تسينغهواquot; الصينية عام 1995 وجد أن مختبرها قد استنبط وسيلة تستخدم تقنية quot;المسرعquot; لفحص البضائع المنقولة في حاويات خاصة، وقد أثار هذا الاختراع اهتمامه، فطالب بتطويره. وعندما جاءت النتائج غير مرضية لم يجعل الأمر يتوقف عن ذلك، بل قامت جامعة تسينغهوا بمضاعفة أبحاثها حتى توصلت إلى إنتاج جهاز كبير الحجم أثبت فاعليته في موانئ الصين، ثم تم تصديره للدول الأخرى.


نجد ذلك أيضاً في اليابان التي استعانت بالتجارب والنظريات الغربية، لكنها انتقلت في مدة زمنية قصيرة من حالة النقل والاستيراد إلى حالة الاعتماد على الذات، وخاصة في المجالات العلمية والتكنولوجية، فجندت كل طاقات المجتمع لخدمة هذا الهدف، وكانت استراتيجيتها منذ البداية إنتاج سلع تنافس في جودتها وسعرها السلع الأوروبية والأميركية، وبذلك حققت استقلالها الحضاري وتحولت من أمة مهزومة ومدمرة إلى أمة قوية ومتقدمة.

وعندما بدأت كوريا الجنوبية تجميع السيارات في الستينيات، لم تجمد نشاطها الإنتاجي عند التجميع، بل وضعت لذلك استراتيجية أوصلتها إلى تكوين أجزاء محلية كانت المنطلق لإنتاج سيارة كورية بالكامل.

والقاسم المشترك بين هذه التجارب أنها كانت تعتبر الإنسان الركيزة الأساسية لمشروع النهضة، فكانت تهيئ له كل الظروف ليبقى في عمله، وليقدم أفضل ما عنده. وذلك أيضاً أحد أسرار نجاح التجربة الماليزية التي كانت تعتبر تقاعد الموظف خسارة كبيرة للوطن ونهضته.

إن عملية استحضار مثل هذه التجارب والنماذج التنموية، يمكن أن يكون دافعاً لوضع المبادئ الأساسية لبناء قاعدة عربية، علمية وتقنية، وللأخذ بالجوانب الحقيقية -وليست الشكلية- لذلك النجاح.