Tony Karon -Time

المبادرات الأخيرة التي أطلقها المجلس العسكري الذي يحكم البلد منذ سقوط الرئيس حسني مبارك في شهر فبراير، تشير إلى أن الجنرالات يتبعون النموذج التركي الخاص بهم والذي يعود إلى حقبة سابقة، وهو عبارة عن نظام عسكري مستقل يستأثر بسلطة سياسية مدنية، ويستعمل حق النقض في العملية الديمقراطية، ويتدخل عندما يرغب في ذلك بعد أن أعلن نفسه مسؤولاً عن حماية العلمانية والمصلحة الوطنية.
تُعتبر تركيا، بنظامها الديمقراطي التعددي واقتصادها المزدهر بقيادة حزب إسلامي معتدل، النموذج الذي يجب أن تقتدي به مصر في حقبة ما بعد مبارك من وجهة نظر عدد من قادة جماعة الإخوان المسلمين، لكن المبادرات الأخيرة التي أطلقها المجلس العسكري، الذي يتألف من 25 عنصراً ويحكم البلد منذ سقوط الرئيس حسني مبارك في شهر فبراير، تشير إلى أن الجنرالات يتبعون النموذج التركي الخاص بهم والذي يعود إلى حقبة سابقة، وهو عبارة عن نظام عسكري مستقل يستأثر بسلطة سياسية مدنية، ويستعمل حق النقض في العملية الديمقراطية، ويتدخل عندما يرغب في ذلك بعد أن أعلن نفسه مسؤولاً عن حماية العلمانية والمصلحة الوطنية.
يبدو أن الجنرالات اكتسبوا ثقة إضافية بأنفسهم بعد أن لعبوا أوراقهم بكل حذر في الأشهر التي تلت تنحي مبارك، حين استلموا مسؤولية إدارة وضع سياسي مضطرب، فها هم الآن يطالبون صراحةً بالتخلص التام من الرقابة السياسية المدنية في أي دستور جديد، حتى أنهم يطالبون بالحصول على حق التدخل في العملية السياسية.
كانت عبارة ldquo;الجيش والشعب يد واحدة!rdquo; الشعار الأساسي الذي طبع احتجاجات ميدان التحرير التي أجبرت مبارك على التنحي، ولكنّ هذا الشعار كان مجرّد أمنية وهو لا يعبّر عن الواقع بأي شكل. عملياً، لطالما كان الجيش ركيزة النظام القائم منذ عام 1952، حين قاد الكولونيل جمال عبدالناصر حركة الضباط الأحرار في انقلاب أطاح بالنظام الملكي، وقد انحدر جميع الرؤساء الذين حكموا مصر منذ ذلك الحين من صفوف كبار القادة العسكريين، وحتى عندما عيّن قائد القوات الجوية السابق حسني مبارك جنرالاته، ذكّره هؤلاء، في شهر فبراير، بأنه يحكم بحسب إرادتهم.
كما أنّ المجلس العسكري الذي حلّ مكانه لم يكد يُعتبر نسخة معاصرة عن حركة الضباط الأحرار، إذ يقوده وزير الدفاع السابق والمارشال الميداني محمد طنطاوي ويتألف من الضباط أنفسهم الذين كانوا ينفذون أوامر مبارك.
بسبب الثورة التي اجتاحت مصر في الشتاء الماضي، اضطر الجنرالات إلى الإطاحة بمبارك بهدف إعادة إرساء الاستقرار وحماية مصالحهم المؤسساتية الحيوية الخاصة، بدءاً من حصة الجيش الهائلة في الاقتصاد المدني والتمويل الأميركي السنوي الذي يبلغ 1.5 مليار دولار مقابل الحفاظ على السلام مع إسرائيل، ووصولاً إلى الاحتفاظ بالشرعية التي يحتاج إليها لتأدية دوره المحوري في المجتمع. الأهم من ذلك كله هو أن الجيش يحتاج إلى الاستقرار، وقد أصبح إرساء الاستقرار مستحيلاً في حال بقاء مبارك على عرشه. كذلك، رحّب عدد من الجنرالات بهذه الفرصة لمواجهة خطة مبارك الرامية إلى كسر التقاليد وتعيين ابنه، رجل الأعمال جمال مبارك، خلفاً له بدل اختيار مسؤول عسكري كبير.
كان المجلس العسكري يهدف أساساً إلى قمع الثورة، مع أنه ادعى في الوقت عينه أنه يحمي تلك الثورة، حتى أنه يزعم الآن بأنه شارك في نجاحها.
لقد أحبط الجيش، عن طريق العنف أحياناً، أي احتجاجات أو إضرابات إضافية، وقد اعتُقل أكثر من 7 آلاف مصري وصدرت تقارير موثوقة عن حصول أعمال تعذيب منذ رحيل مبارك. لقد أُعيد تنظيم بعض فروع جهاز أمن الدولة، وتمّ طرد بعض المسؤولين أو محاكمتهم، لكن لم تطرأ أي تغييرات فعلية على البنى الأمنية السائدة في عهد مبارك بما يخدم حاجات المجتمع الديمقراطي، بل برزت مبادرات لتهدئة الغضب الشعبي.
من المعروف أن الجنرالات يحكمون وفق الأسلوب المألوف الذي يتبعه الحكّام الاستبداديون العرب الذين يواجهون انتفاضة المواطنين، أي أنهم يُقيلون الحكومة ويُلحقون بها التعديلات، ما يؤكد أن الحكومة لا تتمتع بسلطة حقيقية. وعد المجلس الأعلى في البداية بأنه سيحكم لمدة ستة أشهر لا أكثر، وستنتهي هذه المهلة في شهر أغسطس. لكنهم لم يعيّنوا لجنة انتخابية قبل 19 يوليو للبدء بالتحضير لانتخابات برلمانية جديدة، إذ كانت الانتخابات المرتقبة ستحصل في شهر سبتمبر ثم تأجلت حتى شهر نوفمبر، وبالتالي يجب ألا يراهن أحد على حصول الانتخابات قبل السنة المقبلة.
ربما أدى تأجيل الانتخابات إلى إثارة غضب الإخوان المسلمينndash; من المتوقع أن يحققوا نتيجة جيدة في الانتخاباتndash; لكن يتماشى هذا التأجيل مع رغبات الأحزاب الليبرالية التي تخشى أن يتفوق عليها الإسلاميون، كونهم أكثر تنظيماً ويتمتعون بشعبية أكبر، في حال إجراء الانتخابات في الخريف. كذلك، استفاد الجيش من شكاوى الليبرليين الذين طالبوا بمراجعة طريقة صياغة الدستور الجديد: في الأساس، كانت هذه المهمّة ستكون من مسؤولية البرلمان الجديد، الأمر الذي أثار قلق الليبراليين لأنهم توقعوا أن يلعب الإخوان دوراً بارزاً في تلك المؤسسة.
وبدل ذلك، عيّن المجلس العسكري خبراء من معارفه لإعلان ldquo;المبادئ الأساسيةrdquo; التي ستحكم طريقة صياغة الدستور الجديد، ويبدو أن تلك المبادئ ستشمل حماية الجيش من أي رقابة مدنية، ومنحه حق التدخل في ldquo;حمايةrdquo; الديمقراطية المصرية.
في الأسبوع الماضي، قال أحد الجنرالات لصحيفة ldquo;واشنطن بوستrdquo;، شرط عدم الإفصاح عن هويته: ldquo;نريد نموذجاً مشابهاً لتركيا، ولكننا لن نفرضه بالقوة. تحتاج مصر إلى هذا النموذج لحماية نظامها الديمقراطي من الإسلاميين. نحن نعرف أن هذه الجماعة لا تفكّر بطريقة ديمقراطيةrdquo;، لكن حتى الجيش لا يفكر بطريقة ديمقراطية! بل إنه يقوم ببساطة بما يتعين أن تفعله هذه المؤسسة التي شكلت أساس الحكم الاستبدادي طوال ستة عقود.
كان المحتجون الذين احتشدوا في ميدان التحرير، في الشتاء الماضي، وجابهوا ldquo;البلطجيةrdquo; من أنصار مبارك، يطالبون بتغيير النظام، لكن وفق الأوضاع الراهنة، يبدو أن كل ما حققوه حتى الآن يقتصر على سلسلة من التغييرات داخل النظام شملت تغيير هوية المسؤولين وأسلوب التعامل، وبما أن الوضع أصبح الآن بيد الجيش، فسيكون إرث الثورة التي أطاحت بمبارك عبارة عن نسخة معدّلة عن نظامه القائم على سلطة الجيش بدل التحول إلى ديمقراطية حقيقية مبنية على سيادة الإرادة الشعبية، لكن يبدو أنّ الإسلاميين والليبراليين وغيرهم من الديمقراطيين ممن ناضلوا لإسقاط مبارك ليسوا مستعدين لتقبّل احتفاظ الجيش بالصلاحيات نفسها في الحكومة المصرية المنتخبة، بما يشبه الصلاحيات التي يطالب بها رجال الدين غير المنتخبين في إيران داخل البرلمان ومنصب الرئاسة، وبدل تفكك هذا النظام العسكري، يبدو أن إسقاط مبارك في شهر فبراير كان ببساطة أول خطوة على طريق الثورة المصرية.