أحمد عبد الملك
اعتباراً من 9 يوليو 2011 أصبح السودان سودانين! الأول جمهورية السودان في الشمال، والثاني دولة جنوب السودان في الجنوب، حيث تغيرت الخريطة في القارة الإفريقية بشكل ملفت للنظر، وما يأمله كثيرون الآن هو انتهاء أزمة حرب الـ 50 عاماً بين الشمال والجنوب.
وقد تفاوتت مشاعر الإخوة السودانيين بين حزن على اقتطاع الجنوب، وتسامح مع نيل أهله استقلالهم بعد سنوات من الحروب الطاحنة مع الشمال.
وهنالك من يرى أن الحكم العسكري في الشمال منذ 1956 لم يؤهل السودان لأن يكون دولة منتجة وصناعية، على رغم ما روجته بعض وسائل الإعلام المريضة من أن السودان quot;سلة الغذاء العربيquot;! ويتخوف البعض من أن دولة الجنوب -بحكمها العسكري- نسخة مشوهة من دولة الشمال! ذلك أن تركة الحرب ما زالت كبيرة، وعلى الجنوب استيعاب الأعداد الغفيرة من المهاجرين.
كما أن الاتفاقيات المبرمة بين الشمال والجنوب لم تحل قضايا الحدود -خصوصاً في مناطق غنية بالنفط- وقد خاضت القوات السودانية حرباً ضد ميلشيات موالية لجيش التحرير الجنوبي. ومن المشاكل عدم التوافق على منطقة quot;أبييquot; الغنية بالنفط أيضاً، وهي محل نزاع كبير بين الشمال والجنوب. وقد دخلتها قوات الشمال ما شكل أزمة نزوح كبرى للمواطنين باتجاه الجنوب المدقع، حيث زاد عدد النازحين على 100 ألف. كما يتحكم الشمال حاليّاً في تكرير وتصدير النفط، حيث تعبر أنابيب النفط والتكرير أراضيه نحو موانئ التصدير. وقد يؤدي ذلك أيضاً إلى أن يبحث الجنوب عن طرق جديدة لتكرير وتصدير النفط، إن لم يتم التوصل إلى اتفاق مع الشمال (حيث يرجح أن تستخدم دولة الجنوب أنابيب النفط الكينية).
وهنالك من يرى أن العقلية التي أدارت الأزمة السودانية/ السودانية، وفشلت في التئام الشمال مع الجنوب، لن تنجح في إقامة علاقات حسن جوار بينهما. وقد ظهر الرئيس البشير بعد يومين من إعلان استقلال الجنوب مهدداً باللجوء إلى السلاح ما لم يتم إيجاد حل لمنطقة quot;أبييquot; التي لم يُحسم أمرها خلال اتفاقيات الانشطار. وأشار في لقاء مع quot;هيئة الإذاعة البريطانيةquot; إلى أن منطقة quot;أبييquot; هي مصدر لنزاع محتمل مع جمهورية جنوب السودان!
وكان أبوبكر القاضي، رئيس المؤتمر العام لحركة العدالة والمساواة ومستشار رئيسها للشئون العدلية وحقوق الإنسان، قد أبدى أسفه لتعامل حكومة السودان (الشمالية) مع الأطراف الأخرى بالطريقة ذاتها والمنهج نفسه اللذين تعاملت بهما مع الجنوبيين مما قادهم للمطالبة بحق تقرير المصير ومن ثم الاستقلال. ووصف علاقات quot;المركزquot; مع quot;الأطرافquot; بأنها quot;علاقات استعماريةquot;، وليست علاقة أمة واحدة منسجمة ومبنية على قيم العدل والمساواة.
وقد دان بعض الكُتاب السودانيين انفصال الجنوب واعتبروه مؤامرة دولية نظمها المستشارون الإسرائيليون الذين عملوا خلف الكواليس بقصد الإساءة للشعب السوداني. في حين أرجع بعضهم جذور الأزمة التي حصلت عام 1947 إلى دور الإنجليز في مؤتمر quot;جوباquot; الذي أشيع أن أعضاءهُ اختاروا الوحدة مع الشمال! ويبررون ذلك بأن نائب الرئيس نميري quot;أبيل أليرquot; قد صرح بأن الجنوبيين لم يختاروا الوحدة في مؤتمر quot;جوباquot;، ويرى أن الجنوبيين قد تم quot;سوقهمquot; سوقاً إلى الوحدة رغم عنهم. وهنالك من رأى في تقسيم السودان تشطيراً للثقافة والتراث السودانيين، وجعل السودان الجنوبي سجناً كبيراً للجنوبيين محظوراً على إخوانهم الشماليين.
وكانت إسرائيل من أوائل الدول التي اعترفت بالنظام الجديد في الجنوب، بل لقد استفز العرب مشهد العلم الإسرائيلي في احتفالات الجنوب! وهذا يدلل عن أن المستقبل قد يحمل لنا quot;بشائرquot; التغلغل الإسرائيلي في هذا الجنوب، وقد يتطور الأمر إلى تحالفات عسكرية واتفاقيات تدريب وتصدير للأسلحة! خصوصاً في ظل امتعاض إسرائيل والغرب والولايات المتحدة من حكم الشمال، وسعيهم لملاحقة البشير قضائيّاً عبر محكمة الجنايات الدولية.
ويتخوف البعض أيضاً من حدوث قلاقل وانتكاسات في إقليم كردفان، وquot;أبييquot;، واحتجاجات من دول حوض النيل إذا ما أقبلت دولة الجنوب على إجراءات تؤثر على تدفق نهر النيل حتى مصبه في البحر الأبيض المتوسط. وقد قيل قبل سنوات إن الحرب القادمة ستكون حرباً على المياه لا النفط! ولكن يبدو أن الحروب القادمة ستكون على النفط والمياه معاً! وقد أعدت الولايات المتحدة برنامجاً لمساعدة الجنوب بقيمة مبدئية تقدر بـ300 مليون دولار، وسيتم الكشف عن معونات أخرى في مؤتمر سبتمبر المقبل.
كما سيتطلب الأمر وضع قوات حفظ سلام دولية قوامها 7000 فرد على الحدود إضافة إلى شرطة مدنية قوامها 900 فرد. وفي الوقت الذي أعلنت فيه الخرطوم أنها ضد استمرار وجود قوات حفظ السلام الدولية، معلوم أن هذه القوات موجودة في ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق وأماكن أخرى في الشمال. وفي هذا المقام رد الأميركيون بضرورة تواجد هذه القوات لفترة إضافية، بهدف توزيع المساعدات الإنسانية وحماية المدنيين. ويبدو أن الذي يدور في quot;رأس الخرطومquot;، هو غير المعلن أميركيّاً!
لقد تسرب أن الجنوبيين لن يواصلوا قبولهم بتقاسم النفط من منطقة quot;أبييquot; مع الشمال -حسب اتفاقية السلام عام 2005- ذلك أن ثلاثة أرباع النفط السوداني تأتي من الجنوب. ويرى اقتصاديون أنه إذا تحقق ذلك فإن الشمال سيفقد 36% من عائدات النفط، ولكن إذا وضع اتفاق بهذا الشأن، فإن الشمال سيعوض ذلك عبر قيمة استخدام الجنوب لأنابيب النفط والمصافي والموانئ الموجودة في الشمال.
ويأمل السودان الشمالي أن يعود إليه الاعتبار الدولي وأن يخرج من دائرة العقوبات وإلغاء ديونه التي بلغت 39 مليار دولار! بعد أن وافق على تلك الخطوة الجريئة التي أحزنت كثيرين من أبناء الشمال. ولكن هذا الأمر سيعتمد حتماً على ملامح التغيّر في السلوك الدبلوماسي الخارجي لحكومة السودان، ومدى قبول السودان التعامل مع quot;الأعداءquot; الأوروبيين والأميركيين الذين سيحلون quot;ضيوفاً معززينquot; في خاصرته!
إن الإشكالية عموماً في مناطق الأقليات في العالم العربي هي أنها لا تصمد في الوحدة، تماماً كما حدث في كردستان العراق، ومناطق أخرى. ولأن الأيادي الأجنبية دوماً تجد لها منفذاً لتعطيل أية وحدة. ولكن على مدى التاريخ فإن الانفصال تكون أضراره أكثر من الوحدة، وهذا ما ستأتي به الأيام، لأن نقاط الخلاف ما زالت قائمة بين الشمال والجنوب، ولعل نقطة quot;النفطquot; عند كثيرين هي أخطر نقاط quot;الدمquot;.
التعليقات