قفص التاريخ
غسان شربل
الحياة
ليس لحسني مبارك مستقبل. انه في الخريف. هربت منه الاختام. ونزف الكثير من الايام. السؤال عن مستقبل مصر لا عن مستقبله. المحاكمة مفيدة بقدر ما تجنب المستقبل ويلات الماضي. بقدر ما تعيد مصر الى مصر. وتعيدها الى دورها. لتكون رائدة ومثالا لا تقبل الظلم ولا ترضخ للظلام. والعربي معني بمصر. والعربي يرصد مجريات الامتحان المصري.
يفرك العربي عينيه. يشكك في ما يراه. يكاد لا يصدق. لم يجهز اصلا لمواجهة هذا النوع من المشاهد. والتجربة تقول ان الرئيس يدوم ويدوم اذا لم تغدره رصاصة او عبوة. ولا يفرج عن القصر الا اذا استدعاه القبر. ويخرج حينئذ مجللا بالاحترام. ملفوفا بعلم البلاد ومحمولا على عربة مدفع. يتصبب الدمع من سطور وكالة الانباء الرسمية. وتطل مذيعة الاخبار مجللة بالسواد.
لا يخطر في بال الرئيس ان يرحم نفسه. او ان يرحم شعبه. وان يكتفي بولاية او اثنتين. لقب الرئيس المخلوع مكروه تماما. مثله لقب الرئيس السابق. السلطة مدرسة في النهم. ولائمها تضاعف الجوع. ثم ان الزعيم ليس مدينا لأحد. مرسوم تعيينه سطره التاريخ. موافقة الشعب على التكليف جاءت لاحقة ومتأخرة. لهذا يسافر القائد من التاريخ الى التاريخ. لا المعارضة تخيفه. ولا المحاكمة تمر في باله. الشعب سعيد ويدعو له بالعمر المديد. هكذا تقول التقارير ويغرد المستشارون. والحاكم يقتله عسل التقارير وبخور التقارير.
يفرك العربي عينيه. قبل اعوام رأى سجانين يقتادون رجلا. يلفون الحبل حول عنقه. ورآه يحدجهم بنظرة احتقار. ثم تدلى جسده. كان اسم الرجل صدام حسين. ادمى بلاده والاقليم. وخال العربي ان المشهد مجرد استثناء. وانه لولا الاحتلال الاميركي لما اقتلع الرجل مع نظامه والتماثيل.
منذ شهور يفرك العربي عينيه. مشاهد غير مسبوقة. مشاهد لا تصدق او تكاد. فاضت ينابيع الغضب. تدحرجت قلاع. وتفككت هالات. بالامس رأى رجلا يقتاد الى قفص الاتهام على سرير نقال. رآه في القفص مع نجليه. انه حسني مبارك الذي صار لقبه على الشاشات الرئيس المخلوع.
حدق العربي مشدوها. لم يجهز اصلا لهذا النوع من المشاهد. قضاة ومحامون ومتهمون. اتهامات باعطاء الاوامر بالقتل. اتهامات بالاستبداد والفساد. وخارج القاعة اعصاب مشدودة. وصدامات. هذا يطالب بالعدالة. وذاك يطالب بالاعدام. وثالث يذكر القضاة بان الرجل لعب دورا في حرب اكتوبر وفي اعادة مصر الى العالم العربي. ورابع كان يفضل عدم اذلال الرجل الثمانيني. وخامس يقول ان المحاكمة تؤكد نجاح الثورة والقطيعة مع الماضي وفتح صفحة جديدة.
اغلب الظن ان حسني مبارك اساء تقدير العاصفة حين كانت في بداياتها. لم يقرأ ما كان عليه ان يقرأه في هتافات الميادين. طول الاقامة يعزل الحاكم عن نبض الشارع. وقد تكون التقارير كذبت عليه. لم يستنتج ما كان عليه استنتاجه. لم يصدق ان هؤلاء الذين ولدوا في ظل عهده لن يتراجعوا قبل اقتلاع نظامه. وحين سلم بالخسارة لم تراوده فكرة الابتعاد عن الخريطة. ربما لشعوره ان مجرد تنحيه يكفي لتهدئة مشاعر الناقمين والغاضبين. وقد يكون مبارك راهن على قدرة من صعدوا في ظله ولم يبخل عليهم بالنجوم والاوسمة.
انها مصر. احداثها تعنيها وتعني الآخرين. اخطاؤها معدية وانجازاتها معدية. ومن مصلحة الثورة ان يكون العدل هاجسها وان توفر لمبارك محاكمة عادلة. وان تكون محاكمة الماضي ضمانة لمستقبل مختلف. مستقبل مبني على قيم الديموقراطية والعدالة والتعددية واحترام الرأي الآخر. اي جنوح عن هذه القيم سيجعل محكمة التاريخ تنقض حكم المحكمة المصرية.
'الريِّس' كويِّس حتى إنه 'ينقر' أنفه!
أمجد ناصر
القدس العربي
هذه لحظة تاريخية. حقاً انها كذلك. فلم يسبق لنا ان رأينا حاكماً عربياً خلف قفص صنعت قضبانه ثورة شعبية. أكرر: ثورة شعبية وليس انقلاباً عسكرياً. ثورة شعبية وليس احتلالاً أجنبياً. فمن قبل هذه اللحظة التاريخية الفاصلة كنا نرى (ولا نزال نرى في أكثر من بلد عربي ولكن لبعض الوقت) شعوبنا وراء الأسوار العالية للحاكم المؤبد في قصره لكننا لم نر هذا الحاكم، الذي رفعه برلمانه المزوَّر وأجهزة أمنه الشرسة وعصابات نهـــبه وسلبه إلى مصاف الآلهة، وراء القضبان. لم يحدث ذلك من قبل وها نحن نراه بالعين التي ترى ولا تكاد تصدّق ما ترى. هذه لحظة تاريخيــــة لم نكن نحـــلم بها قبل ثورتي تونس ومصر اللتين دشنتا مرحــــلة جديدة من تاريخـــنا وأسَّستا لحــياة عربية لن تعود، كما نأمل ونرجو، إلى الوراء أبداً.
فمن منا كان يصدِّق أنه سيرى ما رأى بالأمس على شاشات التلفزيون؟
من كان يتخيل من قبل، في أعالي أحلامه، أن أقوى حاكم عربي، 'الفرعون' الذي يملك أكبر الأجهزة الأمنية في العالم العربي وأشدّها بأساً سيمثل، هو شخصياً وقرَّتا عينيه ووزير داخليته وجنرالاته، وراء قفص من حديد؟
غير المتخيَّل حصل.
غير الممكن رأيناه أمام أعين تتراقص دهشةً وعجباً في صباح الثالث من آب (أغسطس) لعام 2011 الموافق للثاني من شهر رمضان من عام 1432 للهجرة.
احفظوا هذا التاريخ جيداً.
' ' '
لم نكن، نحن ابناء الشعوب المقهورة، مَنْ تسمَّروا أمام شاشات التلفزيون فقط. كان هناك آخرون تابعوا مثلنا هذا الكسوف الكليّ لشمس الفرعون: إنهم الحكام العرب الذين تهتزُّ عروش بعضهم هذه الأيام على وقع ثورات شعوبهم، وستهتزُّ، قريباً، عروش بقيتهم ما بقوا على ما هم عليه الآن من تألّه وطغيان.
هذه اللحظة التاريخية ليست موجهة للشعوب العربية التي أهداها الشعب المصري العظيم حدثاً فارقاً في تاريخنا، بل أزعم أنها هدية صباحية كئيبة للحكام أيضاً. فها هو كبير الفراعنة يؤتى به على محفَّة (حركة مسرحية فاشلة من مخرج مسرحي أفشل) ليمثل وراء القفص الذي أعدَّ له خصيصاً!
أستطيع أن أتخيل سحن حكامنا المُربَّدة، أستطيع أن أرى ارتعاد فرائصهم وصرير أسنانهم، خوفاً وغيظاً، وهم يرون كبيرهم الذي علَّمهم السحر تُتلى عليه صحيفة جرائمه.
اليوم 'الريِّس' لم يكن هو 'الريَّس' المعتاد.
هذه الكلمة التي تردَّدت عشرات المــــرات في قاعة المحكــــمة لم تكن تعني ذلك الممدَّد على محفّة بل الرجــــل الذي يتقلد وشاح العدالة الأخضر ويضبط، في تهيّب وجفاف ريق، ايقاع الجلسة التاريخية.
هذا هو 'الريِّس' اليوم، ولا 'ريِّس' غيره، أما ذلك الممدَّد على المحفَّة المسرحية، فكان لديه الوقت الكافي لكي 'ينقر' أنفه!
لسوء حظه فقد ألقت الكاميرا عليه القبض وهو يدخل اصبعه في أنفه أو وهو يمطُّ شفتيه في وجهٍ خالٍ، تقريباً، من التعبير.
' ' '
المحامون الحواة كانوا هناك أيضاً. إنهم يعملون وفق دفتر شروط قديم. يريدون إغراق المحاكمة في بحر من الشكليات القانونية التي اعتادوا عليها من قبل وكانت تنفعهم في إفلات الحيتان الكبيرة من الشبك. اليوم لن تنفع هذه الألاعيب الشكلية. فما إن رُفعت الجلسة للاستراحة حتى راحت الكاميرات تلتقط آراء الناس والناشطين في الخارج. معظم من تحدثوا إلى الفضائيات العربية التي نقلت بثها عن التلفزيون الرسمي المصري حذروا من حرف سير المحاكمة. المعلقون لاحظوا أيضاً اندفاعة محامي الرئيس المخلوع فريد الديب نحو الجوانب الشكلية للمحاكمة. كيف حولت القضية من قاض الى آخر وكيف ضمت أوراق قضية الى أوراق قضية أخرى إلخ.. غير ان ذوي الضحايا لا تهمهم هذه الأمور الشكلية. فهم يريدون قصاصا عادلا ممن تسبب بهذا العدد الكبير من الضحايا. هؤلاء ليسوا وحدهم في الساحة. الشبان الذين فجروا الثورة وأجبروا المجلس العسكري وحكومته المؤقتة على احضار مبارك شخصيا للمثول وراء القفص (وليس محاميه كما كان يتجه الأمر) وعلى جعل المحاكمة علنية، موجودون بيقظة هناك.
علينا أن ننحني لهؤلاء الشبان. فلولاهم ما كنا رأينا هذه اللحظة التاريخية. فقد كان هناك في صفوف المعارضة الرسمية من اكتفى بالثورة بتنحّي حسني مبارك، بيد أن الشبان، صانعي الثورة، أبوا إلا أن يكملوا المشوار. فالثورة لن تتوقف ما لم تتجذر وهي لن تتجذر بمجرد اطاحة رأس النظام. حتى هذا الحدث الباهر ما كان ليتم لولا اعتصامهم الأخير.
' ' '
لم تنته فصول محاكمة حسني مبارك ولم نر مفاجآتها بعد. لقد بدأت فقط. وستكون هناك محاولات، على طول الخط، لايجاد تسوية لها. فلول النظام السابق الذين حشدوا أنصارهم خارج قاعة المحكمة، على نحو يوحي بالتنظيم، سوف يواصلون محاولات وقف المحاكمة عند حد معين أو حرفها في اتجاهات فرعية، دول الثورة المضادة في الجوار سوف ترمي بثقلها المالي والسياسي للوصول إلى صيغة عفا الله عما مضى، أو ارحموا عزيز قوم ذل، لكن الرهان سيكون، من الآن فصاعداً، على 'صمود' المستشار أحمد رفعت الذي تصدى لهذه المهمة الجلل.. وبالتأكيد على يقظة شباب الثورة واصرارهم على تجذير ثورتهم.
التعليقات