عبد الوهاب بدرخان

عندما فتح الباب لإدخال السرير إلى قفص الاتهام ارتفع الترقب الدرامي إلى أقصاه. العيون تبحث عن وجه الرئيس من بين لابسي الأبيض والقاتم المحيطين به. كانت عاديته صافعة، وتشي بأنه لا يدري أين هو، أو ما الذي يجري حوله. وجه بتعابير لا تنمُّ عن اكتئاب ولا وهن، كما قيل عشية ظهوره، بل عن قدرية مكتومة كأنما أنهى صاحبها مضغها ليجتاز النفق المفزع بين الجبروت والمهانة. كان المتسمِّرون أمام الشاشات يتأرجحون بين المسلسلات المتخيَّلة وتلفزيون الواقع. وبدا وجه quot;المتهم الأولquot; كأنه آتٍ من ما بعد الواقع.

مصر الموغلة في التاريخ، الشعب الحي، المؤسسات التي كافحت من أجل البقاء على رغم عوامل التفكك التي زرعت فيها. مصر، وحدها، تستطيع أن تقدم هذه السابقة: رئيس تحت القانون، رئيس يمثل أمام قاضٍ، مع نجليه ورجاله الذين كانوا أقوياء. ليس في الأمر ما يدعو إلى شماتة أو تشفٍّ. ثمة بداية صعبة، مؤلمة، نحو سويّة العدالة. ثمة في مشهد المحاكمة ما ينبئ بأن العسكر لم يجدوا مفرّاً من القطع البائن مع النظام القديم.

هو الرئيس المصري الثالث، منذ الثورة وإنهاء الملكية، الذي لا يتمتع بخروج طبيعي من السلطة. مع الفوارق المعروفة، انطبعت في الذاكرة مشاهد ثلاثة انشدَّ إليها العرب والعالم: نعش جمال عبدالناصر وسط بحر من الناس، منصة أنور السادات، وسرير حسني مبارك وراء القضبان. هي مشاهد، لكنها من لحم ودم، تثير من الانفعالات بمقدار ما أن مصر مغروزة في العقول والقلوب، قبلة الأنظار، صانعة المعايير والمساخر والنماذج. بعد كل مشهد كان يبرق الأمل بولادة جديدة لمصر، للعالم العربي، ثم ينطفئ ويخمد. لعل الأمل الحالي يتفاعل ويدوم.

في المرحلة الأخيرة لعبد الناصر، لم تكن وراءه مليونية، بل مليونية المليونيات. شعر كل مصري بأنه يرغب، بل يجب، أن يكون في هذا الوداع. كان quot;الريّسquot; انتهى عمليّاً منذ إعلانه المتلفز عن التنحي، غداة هزيمة يونيو 1967. لكن مليونية الـquot;لاquot; أبقته لبعد الحرب التالية. كانت التلقائية الشعبية هي التي قررت أن تلك اللحظة لم تكن للتنحي وإنما لتجديد الثقة في الرجل، على رغم أعوانه المتهاونين وأجهزته التي قرنت فسادها بسلطويتها. لم تكن عفة quot;الريّسquot; بكافية لتغطية غلو أذرع النظام، أو لضبطها. قيل إنه توفي بفعل المرض والإرهاق، وقيل إنه قضى بتلاعب طبّي لا يخلو من مؤامرة. لكن الأكيد أن الذين قتلوا خلَفه كانوا آنذاك يافعين في بيئات هامشية ولم يشاركوا في جنازته المشهدية العظيمة.

كان جميع أقطاب السياسة المصريون في السجن عندما ارتدى السادات بزّته العسكرية ونياشينه لترؤس الاحتفال السنوي الثامن بـquot;نصر أكتوبرquot;. قبل ذلك، ومنذ الاحتفال الثالث عام 1977، عام زيارته للقدس وخطابه أمام quot;الكنيستquot; الإسرائيلية، أدخل المصريين والعرب في مشاعر متناقضة، أحدث الصدمة ولم يتفطن إلى أنه مسؤول أيضاً عن معالجة تداعياتها. للسلام المقترح أنصار غدوا مشتبهاً بهم. وللحرب أنصار غدوا أشبه باليتامى. لم يكن هذا quot;الريّسquot; متزيناً بكاريزما سلفه ولا بمصداقيته، لكنه أبدى الشجاعة على تجاوز الأمر الواقع. بين العزل العربي والهدهدة الدولية والنزق الداخلي، كثرت المواجهات التي عليه أن يخوضها، خصوصاً أن من يمجدونه في الخارج لم يبالوا هم أيضاً بأن الصدمة التي فجرها يمكن أن تودي به. كان الاستخفاف بجريمة زرع إسرائيل في الشرق العربي -ولا يزال- خطأ تاريخيّاً متكرراً لدى القوى الغربية. فحتى لو كان السلام مقبولاً، بدا كأن من يأتي به يجب أن يلقى مصيره. كان المشهد الذي كررته شاشات العالم مزيجاً من الواقع والخيال، بضعة جنود يهبطون من الشاحنة مندفعين إلى منصة للإجهاز على quot;الريّسquot;. لم ينسَ أحد ذلك المشهد، وبالأخص حسني مبارك. في ذلك الوقت لم يكن أي من شباب الثورة التي أطاحته قد ولد بعد.

ستهيمن دماء المنصة على الأعوام الأولى لعهد مبارك، لكن ستهيمن أيضاً quot;ثقافة السلامquot; الذي لم يدفع هو ثمنه، بل استفاد من شبه التوازن الذي أقامه السلام والاغتيال. الأول لبناء صورة جديدة لمصر، والثاني لتكثيف مشروعية الحرب على المتطرفين. لكن المكوث طويلاً على الكرسي، أكثر من سَلَفَيْه معاً، جعل النصف الثاني من عهده حاضنة لمختلف أنواع الأمراض، بما فيها أخطرها: لوثة توريث الحكم وما تعنيه من سدّ للآفاق وإحباط للآمال ووطء على الأرض الملغومة. كانت الاستدامة في السلطة أضعفته ودفعته في مسالك وتسويات لا تليق بهذه الدولة، وما لبث التوريث المنبثق من مستنقع الفساد أن قاده إلى مواقف لا تليق بهذا الشعب. لعل عدم الاكتراث المسبق بحكم التاريخ كان الخطوة الأولى إلى محكمة الشعب.