عبد الباري عطوان


بعد سقوط مدينة طرابلس في ايدي قوات المعارضة الليبية وانهيار نظام العقيد معمر القذافي، واقتحام منزله في قاعدة العزيزية، مقر قيادته، من المفترض ان تتوقف عمليات حلف الناتو العسكرية وغاراته الجوية، ولكن ما يحدث هو العكس تماماً، فالسيدة اوانا لونجيسكي المتحدثة باسمه بشرتنا مشكورة، بأن الحلف عازم على مواصلة مهمته لحماية المدنيين مهما استغرق ذلك من وقت، واكدت ان كل هذه العمليات تتم في اطار التفويض الاممي بمقتضى قرار مجلس الامن رقم 1973.
السيدة لونجيسكي تمارس ابشع انواع الكذب والخداع، وهي تعرف ذلك، فلو كان هدف تدخل حلف الناتو العسكري في ليبيا هو حماية المدنيين فقط فلماذا عارض الحلف وقادته السياسيون، قبل العسكريين، جميع المبادرات والوساطات التي تهدف الى وقف اطلاق النار، وحقن دماء ابناء الشعب الليبي.
نفهم ان يسارع الحلف بتطبيق قرار مجلس الامن الدولي المذكور، ويفرض منطقة حظر جوي فوق مدينة بنغازي، عندما كانت دبابات العقيد القذافي تزحف نحو المدينة لارتكاب مجزرة فيها، توعد بها المهندس سيف الاسلام القذافي عبر شاشات التلفزة، وقال وهو يلوح باصبعه مهدداً 'انتظروا 48 ساعة وكل شيء سينتهي'. ولكن لماذا يواصل غاراته الجوية وعملياته العسكرية حتى بعد سقوط النظام، والاكثر من ذلك التحول الى قوات بوليس لمطاردة الزعيم الليبي المخلوع والبحث عنه بهدف اغتياله؟
صحيفة 'الديلي تلغراف' البريطانية المحافظة اكدت على صدر صفحتها الاولى يوم امس، ان بريطانيا ارسلت وحدات من قواتها الخاصة 'اس. ايه. اس' منذ اسابيع الى ليبيا، وان هذه القوات التي يرتدي عناصرها ملابس مدنية تقود عمليات البحث عن العقيد القذافي، بهدف قتله او اعتقاله.
وزير الدفاع البريطاني وليام فوكس اكد بدوره ان حلف الناتو يقدم معلومات استخبارية واستطلاعية في عمليات البحث عن القذافي، ولكن السيدة لونجيسكي تكذب مرة اخرى وتنفي ان قوات الناتو وطائراته تستهدف شخصاً بذاته، سواء كان القذافي او غيره.
لم نقرأ في قرار مجلس الامن الدولي اي اشارة، ولو غير مباشرة، الى استقدام وحدات امنية خاصة من بريطانيا او غيرها للمشاركة في عمليات بحث عن زعيم مخلوع وافراد اسرته بهدف قتلهم، فمن المفترض ان تكون هذه مسؤولية قوات المعارضة، ومن بينها وحدات عسكرية وامنية كانت تابعة لنظام الحكم السابق، ولكن كل شيء جائز هذه الايام في هذا الزمن الامريكي البشع، فقيادة حلف الناتو تتصرف وكأنها مهمة احتلال دائم، وليست تتدخل من اجل انجاز مهمة محكومة بفترة زمنية محددة.
' ' '
لم نقلل مطلقاً من خطورة العقيد معمر القذافي، حتى بعد الاطاحة به من سدة الحكم، وانهيار قدراته العسكرية، ولكنه الآن لم يعد يملك الدبابات وقواعد الصواريخ والطائرات حتى يستمر حلف الناتو وقدراته العسكرية الجبارة في التصدي له، بل اصبح انساناً مطارداً يهرب من بيت الى آخر، او يتنقل في انفاق تحت الارض، على امل ان يطيل في فترة بقائه حياً، قبل العثور عليه وقتله.
السيد مصطفى عبد الجليل رئيس المجلس الوطني الانتقالي رجل طيب، نظيف اليد واللسان، هكذا يجمع من عرفوه، واكد هذه الحقيقة عندما تعهد بوضع نفسه تحت طائلة العدالة والتحقيق بشأن فترة السنوات الاربع التي قضاها في خدمة النظام المنهار كوزير عدل.
من حقنا ان نسأل السيد عبد الجليل كيف يرتكب اثماً قانونياً واضحاً وصريحاً، ويعلن عن رصد مكافأة مالية (مليوني دولار تقريباً) لمن يقتل الزعيم الليبي المخلوع، ويعطيه حصانة من اي ملاحقة جنائية له في حال اقدامه على مثل هذه الجريمة، ونقول نعم انها جريمة، يعاقب عليها القانون.
وزير العدل يجب ان يبتعد عن اي شبهة تتعلق بخرق القانون، وان ينحاز دائماً الى العدالة وقيمها، حتى لو تعلق الامر بعتاة المجرمين والارهابيين، وله قدوة ومثل فيما يجري حالياً في مصر من محاكمات عادلة وعلنية لرموز النظام المصري السابق، ابتداء من الرئيس حسني مبارك، وانتهاء بضباط قوات الامن، الملطخة اياديهم بدماء شهداء الثورة المصرية.
اذكر ان الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات (الارهابي السابق) وفق التعريف الامريكي ـ الاسرائيلي، اضطر لانهاء خدمات السيد فريح ابو مدين وزير العدل في سلطته لانه ايّد قتل سماسرة يسهلون بيع الاراضي في القدس المحتلة، وبضغط من الولايات المتحدة نفسها، لان وزير العدل يجب ان لا يؤيد اي اعمال قتل خارج اطار القانون والتطبيق الكامل للعدالة.
' ' '
نحن نعيش حالياً عملية تضليل اعلامي واسع، تشارك فيها آلة اعلامية جبارة مسلحة بكل ادوات الكذب والخداع ولي عنق الحقائق، تدار من واشنطن ولندن وباريس. ومن المؤسف ان قنوات فضائية عربية انضمت بحماس الى عمليات التعتيم والخداع هذه، ولكن بطرق بدائية تذكرنا بإعلام الكتلة السوفييتية، وصحيفة 'برافدا' ايام الحرب الباردة.
اثناء حربي العراق، الاولى عام 1991، والثانية التي انتهت باحتلاله عام 2003، كانت هناك عمليات تضليل مماثلة مارستها الادارة الامريكية ببراعة، ولكن كانت لدينا منابر عربية، تفسح مجالاً للرأي الآخر ليعبر عن نفسه، وينحاز الى قضاياه الوطنية، وخاصة اثناء الحرب الثانية، وهو ما لا يحدث حالياً، نقولها وبمرارة شديدة.
لم نسمع مطلقاً من اي قناة عربية ان طائرات حلف الناتو شنت عشرين الف غارة جوية على اهداف ليبية، معظمها في مدينة طرابلس، ادت الى انهيار مقاومة انصار النظام المخلوع بالسهولة التي شاهدناها، ولم تنقل لنا هذه القنوات ومراسلوها الحربيون لقطة واحدة لبعض القتلى من انصار النظام السابق الذين اعدموا بطلقات في الرأس وهم مقيدو الايدي والارجل، او في سيارات الاسعاف.
النظام الليبي السابق الفاسد انهار ولم يأسف عليه احد، ولكن من المفترض ان يكون بديله مختلفاً كلياً من حيث احترام حقوق الانسان وحكم القانون، وتطبيق قيم العدالة على الجميع، دون استثناء، امام محاكم مستقلة في اطار نظام ديمقراطي شفاف.
من المؤسف ان ما نراه حالياً من ممارسات، سواء من قبل حلف الناتو وزعاماته الديمقراطية، او من قبل بعض المنتصرين في حرب تغيير النظام في ليبيا، لا يطمئن في هذا المضمار.
حلف الناتو، ونقولها للمرة الألف، لم يتدخل عسكرياً لتطبيق الديمقراطية والعدالة، وانما من اجل النفط والصفقات التجارية، وعقود اعادة الاعمار، والا لتدخل في اليمن والبحرين وسورية لحماية المدنيين، فالقاسم المشترك بين جميع هذه الدول ليس الديكتاتورية وغياب الحريات والكرامة الانسانية فقط، وانما غياب النفط والارصدة الضخمة في البنوك الغربية، التي تشكل كعكة ضخمة مغرية، كفيلة بتسديد نفقات الحرب وانقاذ الاقتصاد الغربي من افلاسه.