عمّار علي حسن


على مدار سير أحداث ووقائع الثورات العربية نسمع طيلة الوقت استغاثات من جانحين وخارجين على القوانين توظفهم النظم الحاكمة في البلدان العربية التي شهدت ثورات متتابعة لترويع المواطنين والتصدي للثوار وخدمة quot;الثورة المضادةquot;. هؤلاء يسميهم المصريون quot;البلطجيةquot; وفي اليمن يقال quot;البلاطجةquot; وفي تونس quot;البلطجيينquot; وينعتهم السوريون بـquot;الشبيحةquot;. وهكذا تختلف المسميات لكن الفعل واحد.

وهذه الظاهرة تستوجب أن تقف أمامها عقول الباحثين لاسيما في علم الاجتماع والسياسة بالفحص والدرس، لتعرف جذورها، وتتبع تطوراتها، وتبين آثارها الآنية والمستقبلية. لكن ما يمكن أن نطرحه الآن هو: من هم البلطجية؟ ومن أين أتت هذه الكلمة البغيضة؟ أو هذا quot;الاصطلاحquot; الذي ينطوي على قدر هائل من الإكراه المادي والمعنوي الذي يرمي إلى إخضاع شخص أو جماعة لإرادة قوة باطشة غاشمة، وإجباره على اتخاذ قرار أو إتيان سلوك ينافي رغبته. وليست لهذا الفعل القسري القائم على البغي والطغيان والتنكيل بالآخرين، صورة واحدة أو شكل نمطي، وإنما تتعد صوره وأشكاله، وتتفاوت أحجامها، من ظرف إلى آخر، وموقف إلى غيره.

ويعود جذر كلمة quot;بلطجيquot; التي شاعت في المقالات والأدبيات السياسية والقانونية العربية على نطاق واسع إلى أصل تركي، وهو حاصل جمع مقطعين لكلمة quot;بلطةquot; وهي آلة حادة قاطعة وquot;جيquot; ومعناها quot;حاملquot;، ما يبرهن على أن الكلمة تعني quot;حامل البلطةquot;. وفي أيام الإمبراطورية العثمانية كان حاملو البلط quot;البلطجيةquot; يشكلون فصيلًا عسكريّاً، يناط به السير أمام قوات المشاة، لتمهيد طريقها إلى دخول القرى والبلدات والمدن، وسيطرتها على الأرض. وكان هؤلاء يقومون بقطع الأشجار والنخيل التي تعترض تقدم هذه القوات، أو عمل فتحات وهدم أجزاء من جدران الحصون والقلاع. وظل هذا الفصيل العسكري قائماً حتى أيام محمد علي باشا، الذي حكم مصر في الفترة من 1805 إلى 1848.

ووقتها لم يكن اسم أو وظيفة quot;بلطجيquot; يحمل أي شيء أو معنى منبوذ أو مستهجن، بدليل أن الوالي العثماني على مصر في الفترة من 1752 إلى 1755 كان اسمه quot;بلجة جيquot; أو quot;بلطجيquot;. ولكن هذا الاسم صار مصطلحاً كريهاً بداية من ثلاثينيات القرن العشرين، إذ صار quot;البلطجيquot; مجرماً في نظر المجتمع والقانون، وتراكمت هذه الصورة السلبية والمقيتة حتى وجدت الحكومة المصرية نفسها تسن قانوناً لـquot;البلطجةquot; وتضمه إلى قانون العقوبات، ولكنها لم تعرضه على البرلمان، ورفضت المحكمة الدستورية العليا نصه. ثم عادت الحكومة وضمنت قانوناً لـquot;مكافحة الإرهابquot; بنوداً تسد الفراغ التشريعي لمكافحة quot;البلطجةquot;.

وقد صار لـquot;البلطجيةquot; دور ملموس في الممارسات السياسية الطبيعية، إذ شاع في السنوات الأخيرة استخدامهم في الانتخابات على نطاق واسع، وإسناد وظائف محددة لهم، من قبيل التضييق على أنصار المنافسين وتخويفهم، ومنعهم من الوصول إلى صناديق الاقتراع، أو إجبار الناس على التصويت لصالح مرشح معين، وحماية بعض المرشحين من منازلهم، وفرض هيبتهم وسطوتهم على أهل الدائرة الانتخابية. وفي ظل هذا الوضع المغلوط صارت quot;البلطجةquot; مهنة لبعض المنحرفين والجانحين والمجرمين والخارجين على الأعراف والتقاليد والقوانين، وأصبحت تخضع لظروف السوق وأحوالها، فيزيد الطلب على quot;البلطجيةquot; أيام الانتخابات العامة، ويقل في غير موسمها.

كما يستعين بعض رجال الأعمال وكبار الملاك بـquot;البلطجيةquot; لتخليص حقوق مؤجلة، أو السطو على حقوق الغير. وشاع الأمر إلى درجة أن كثيراً من الناس، حتى من بين البسطاء والمستورين، يلجأون أحياناً إلى الاستعانة بهؤلاء للغرض نفسه، في ظل بطء التقاضي، وغياب سلطة القانون، وعدم الثقة في العدالة، وانشغال جهاز الأمن بحماية كرسي السلطة على حساب الأمن الاجتماعي.

وهذا السلوك المشين ليس حديثاً أو طارئاً، بل له تاريخ في العالم بأسره. فطالما سعت قوى الاستبداد إلي الالتفاف على التطور الديمقراطي من خلال حشد وتكتيل quot;البلطجيةquot; وحملة الهراوات والسكاكين والغدارات لتفرقة صفوف المشاركين في الحملات الانتخابية، وفض إضرابات العمال، وقمع احتجاجات منظمات المجتمع المدني والتجمعات الحقوقية. وهنا تطل بقوة quot;مافيات آل كابونيquot; في الولايات المتحدة وبلطجية quot;إس. إسquot; في ألمانيا النازية وquot;الفلانجquot; في إسبانيا، وأصحاب القمصان السود في إيطاليا الفاشية.

ولم تقف quot;البلطجةquot; عند هذا الحد المرتبط بالأفراد والجماعات السياسية داخل الدول، بل لقد وصلت إلى النظام الدولي برمته، فأصبح العرب المحدثون يطلقون على أعمال إسرائيل وبعض أعمال الولايات المتحدة الأميركية صفة quot;بلطجةquot; حيث الإفراط في استخدام القوة، وارتكاب قدر هائل من العنف، في ظل غياب أي مسوغ قانوني لمثل هذا السلوك، ومع عدم اعتناء من قبل المعتدين أو ممارسي quot;البلطجةquot; بوجود مثل هذا المسوغ، والإخلاص فقط لتحقيق المصلحة حتى ولو على رقاب الناس ودمائهم، أو لفرض الهيبة، حتى لو ظهر المعتدي في صورة الدولة الباغية المتغطرسة المتجبرة.

ومثل هذا الوضع جعل quot;البلطجةquot; تخرج عن حدود الممارسات العنيفة والغليظة لعصابات أو أفراد، لتصبح ظاهرة عالمية واسعة، تمتد إلى جميع المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ما يحدو بعدد من السياسيين والدبلوماسيين والمفكرين وقادة الدول ليستعملوا كلمة quot;بلطجةquot; في وصف كثير من الممارسات القمعية لبعض الدول. وقد التقط الإعلاميون العرب الخيط ففاضوا في وضع عناوين من قبيل quot;بلطجة أميركية في مياه الأطلسيquot; وquot;البلطجة الأميركية تطال أفغانستانquot; وquot;دولة البلطجةquot; وquot;نواب البلطجةquot; وquot;زمن البلطجةquot; وquot;فكر البلطجةquot;... والبقية تأتي.