قاسم عز الدين


في سوريا، كما في بقية البلدان العربية الثائرة (عدا البحرين وليبيا، حيث التدخل العسكري مباشر) ثلاثة أطراف داخلية، لا طرفان وحسب. الطرف الأول هو السلطة الحاكمة المستبدة في تسلّطها على الدولة وشؤون الناس. وهي تقوم بإصلاحات شكلية في الدستور وقوانين الانتخابات والأحزاب والإعلام، للمحافظة على استمرارية سلطتها. الطرف الثاني هو مزيج من المعارضات السياسية والنُخب الثقافية التقليدية التي ركبت على الثورة، من أجل مصالحها وطموحاتها في السلطة، إلّا أقل قليلها. وهذا المزيج يطمع في إصلاحات في الدستور وقوانين الانتخابات وقوانين الأحزاب والإعلام، تتيح له النفوذ والسلطة. والطرف الثالث هو بسطاء الناس، وعلى رأسهم الشباب الذين يثورون على تسلّط السلطة في قمع الحريات، وعلى الفقر والبطالة والإحباط وذلّ الحياة. وهم امتداد لثورة إخوانهم في العالم العربي، لا يطمعون في النفوذ والسلطة، ولا هم تيارات معارضة تقليدية، بل قوى مجتمع مدني تعبّر عن تطلّع معظم الشباب وبسطاء الناس إلى حقوقهم في دولة laquo;الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعيةraquo;، وتعبّر كذلك عن حقهم في حرية التعبير والتنظيم من أجل المساهمة في بناء الدولة، ليس من خلال حرية الاختيار فحسب، بل أيضاً من خلال حرية القرار من موقع السلطة المعنوية في الضغط والمراقبة والاقتراح.
وثورة هؤلاء في سوريا من أجل دولة laquo;الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعيةraquo;، كما في بقية البلدان العربية الثائرة، لا يناصرها أحد أو يدعمها غير أهلها، بل يأخذ كل فريق من المعارضات الداخلية، إلاّ أقل قليلها، ومن الدول الإقليمية والدولية، laquo;شقفةraquo; حريات من الثورة، تدغدغ طموحاته ومصالحه الخاصة، على حساب طموحات ومصالح أهل الثورة وشبابها. وليست الحريات السياسية والعامة وحدها ما تلبي مصالح أهل الثورة وطموحاتهم، بل إنّ طموحاتهم ومصالحهم تتجسّد أساساً في السياسات الخارجية والدفاعية والاقتصادية ـــــ الاجتماعية، أي دولة الحقوق الثابتة التي لا تستطيع أن تفسدها السلطة الحاكمة، إن فسدت السلطة، لكن المعارضات تتبنّى، إلاّ أقل قليلها، منذ أول عهدها بالردّة وكلّ لغاية في نفس يعقوب، أنّ الحريات السياسية، ولا سيما حرية اختيار السلطة، تكفي وحدها حتى laquo;تشيل الذيب من ذيلو وتشبّع كل جوعانraquo;. وهذه السفسطة تسهم اليوم، إلى جانب قوى الثورة المضادة، في إجهاض أهداف الثورة، التي نجحت بإسقاط السلطة في مصر وتونس، لكن شباب الثورة وأهلها في مصر لم يستسلموا، وهم يدركون يوماً بعد يوم أنّ المعارضات التي أوقفت الثورة عند استبداد السلطة وعند الدستور وقوانين الانتخاب والأحزاب، هي سلطة laquo;مات الملك عاش الملكraquo;. أما في تونس، فقد امتنع أهل الثورة عن تسجيل أسمائهم في انتخابات الجمعية التأسيسية، وخصوصاً في أرياف الثورة بين سيدي بوزيد والقصرين وقفصة، احتجاجاً، وهم يأملون ثورة على الثورة. وفي سوريا، حيث السلطة الحاكمة أقل تبعية في سياستها الخارجية والدفاعية والاقتصادية ـــــ الاجتماعية من سلطة مبارك وزين العابدين، فإنّ مخاطر إجهاض حقوق أهل الثورة أمرّ وأدهى.
في البدء، سعت دول laquo;المجتمع الدوليraquo; إلى نشر الثقافة laquo;الديموقراطيةraquo; في مستعمراتها السابقة، إثر إزالة الاستعمار. وأشاعت حينها أنّ حرية اختيار السلطة، ولا سيما من قبائل وطوائف وإثنيات laquo;السكان الأصليينraquo;، هي غاية laquo;التحوّل الديموقراطيraquo;. والقصد حينها أن تحافظ laquo;الديموقراطيات الفتيّةraquo; على استمرار تبعية دولها في السياسات الخارجية والدفاعية والاقتصادية ــ الاجتماعية، كأنّ الاستعمار يولد من جديد. فيما بعد، في مرحلة الاستقلال الوطني، عادت دول laquo;المجتمع الدوليraquo; عوداً على بدء في تعميم تلك laquo;الديموقراطيةraquo; نموذجاً معولماً على صورة laquo;اليانكيraquo; الأميركي، لا على صورة النموذج الديموقراطي الأوروبي. فالنموذج الأوروبي له في بلدان المركز جانبان: جانب حرية انتخاب السلطة المتحوّلة، وجانب الدولة الثابتة المستقلة عن السلطة. وديموقراطية تلك الدولة لم تقم على الحريات، بل على الحقوق. ولم تقم بها السلطة المتحوّلة، بل أدّى إليها توازن بين السلطة والسلطة الموازية (النقابات والأحزاب والتيارات الفكرية...) التي تدافع عن حقوق العاملين وصنّاع الحياة. ولم يتحقق في أوروبا أي إنجاز ديموقراطي دون تضحيات المدافعين عن الحقوق في مواجهة سياسات السلطة المنتخبَة في صناديق الاقتراع، لكن التحوّل laquo;الديموقراطي اليانكيraquo;، المعولم من ثقافة الحقوق إلى ثقافة الحريات، هو جرف قاري يقلب التوتة إلى زيتونة، ويدغدغ أحلام الذين يرون عين التمساح تذرف دمعاً، ولا يرونه يفترس ضحيته. وما يهمنا منها في هذا المقام ثلاثة أمور: أ ــ تعزيز السلطة وتهميش الدولة في البلدان التابعة على وجه الخصوص. فالدولة لم يعد لها دور في تنظيم شرايين الحياة، لأنّ أهل laquo;العلم والإدراكraquo; في المؤسسات الدولية ينظمون شرايين الحياة في العالم أجمع على خير ما يرام، كأن تحسب الجنة على الأرض. وما على السلطة المحلية إلّا أن تبصم وlaquo;تتمرتقraquo; بحلاوة حصتها من عائدات أحلام laquo;الازدهار والاستقرارraquo;. ب ــ لم يعد للدولة في البلدان التابعة دور في السياسة الدفاعية والسياسة الخارجية، بل على السلطة المحلية أن تتبنى laquo;استراتيجية السلامraquo; لأنّ الديموقراطيات تحل نزاعاتها حول طاولة المفاوضات على قول ملائكة الديموقراطية laquo;اليانكيةraquo;، ولأنّ ثالوث الحريات المقدسة (حرية السوق، والتجارة، والاستثمار الأجنبي المباشر) لا يمكنه إظهار عجائبه السحرية بدون laquo;سلامraquo;، وبدون برَكة laquo;الشرعية الدوليةraquo;. ج ــ حرية التعبير في قول laquo;المواطنraquo; ما يشاء، وحرية السلطة أن تفعل ما تشاء حتى يحين موعد محاسبتها في صناديق الاقتراع. فالمجتمع المدني (الأحزاب والنقابات والتيارات الفكرية والروحية...) الذي كان سلطة معنوية موازية لسلطة الحكم بين فترتين انتخابيتين، وركناً من أركان ديموقراطية الدولة في المحافظة على الحقوق، بات (إلاَّ أقل قليله من المناضلين) يتعهّد تهذيب مآسي سياسات هدر الحقوق لتسهيل تسويقها.
وليس صحيحاً ما يدّعيه الليبراليون العرب من أنّ دول laquo;المجتمع الدوليraquo; تناصر الثورات تحت تأثير laquo;الرأي العامraquo;، الذي يضغط على حكام الدول laquo;المتحضّرةraquo; للتدخل في وقف المجازر. فالصحيح أنّ laquo;الرأي العامraquo; يضغط من أجل عدم التدخل خوفاً من المزيد من التورط في الحروب، وخوفاً من استفحال الأزمات الاقتصادية والسياسية في مجتمعاته. وقد احتاج تدخّل تلك الدول في ليبيا إلى laquo;طلب نجدةraquo; على وجه السرعة من الجامعة العربية ودول مجلس التعاون، لذرّ الرماد في عيون laquo;الرأي العامraquo;. اليوم، تقود دول laquo;المجتمع الدوليraquo; الثورة المضادة في تونس ومصر، وتتدخل مع المعارضات المصرية والتونسية الطامعة بالسلطة، لضمان إيقاف الثورة عند الدستور والانتخابات والحريات السياسية. وهي تتدخل في ليبيا واليمن للأسباب نفسها، لكن تدخلها في سوريا يصيب ثلاثة عصافير بحجر واحد : 1 ــ تسعير الصراع على السلطة حول مسألة الحريات السياسية وحدها. وهذا الصراع هو بطبيعته وغاياته احتراب دموي يشمل المنطقة بأسرها حول حرية الجماعات الطائفية والإثنية والعرقية في إنشاء laquo;كياناتهاraquo; السياسية. والهدف منه تعميم الصراع العصبي حول نفوذ وحصة كلّ laquo;كيانraquo; من عائدات إدارة سياسات التبعية، والقضاء على أي مقاومة تطمح إلى تفكيك سياسات التبعية، وملء الفراغ العربي الذي تحتله إسرائيل. 2 ــ تعزيز ثقافة الحريات بديلاً من ثقافة الحقوق. وهذا الأمر ذو صلة عضوية بثالوث الحريات النيوليبرالية المقدّسة (حرية السوق، حرية التجارة، حرية استثمار الرأسمال الأجنبي). فحقوق الإنسان مثلاً، لم تعد حقوقاً إنسانية تشمل حق العمل والمأوى والصحة والتعليم والغذاء والمياه..... لأنّ تلك الحقوق تحوَلت إلى سلع تجارية في السوق الحرّة. والهدف من تعزيز ثقافة الحريات بديلاً من ثقافة الحقوق في بلد مثل سوريا لا يزال laquo;شبه مغلقraquo;، ليس تعزيز مصالح دول وشركات laquo;المجتمع الدوليraquo; فحسب، بل أيضاً تعزيز مصالح السوريين المستفيدين من laquo;الانفتاح الاقتصاديraquo; في تبعية مصالحهم الخاصة لاستراتيجيات وسياسات دول laquo;المجتمع الدوليraquo;. 3 ــ توظيف ثورة الشباب وبسطاء الناس في استراتيجيات وسياسات دول laquo;المجتمع الدوليraquo; في ترويج laquo;ثقافة السلامraquo; مع إسرائيل، وفي أهمية اهتمام سوريا بشؤونها الداخلية laquo;أولاًraquo;، وفي ضرورة انضوائها في جهود laquo;الشرعية الدوليةraquo; الحميدة ضد محور الشر.....إلخ. فهي تعمل على توظيف ثورة الشباب وبسطاء الناس في طاحونة استراتيجيات وسياسات القضاء على المقاومة وإرادة الممانعة، وتوظيفها في توطيد أواصر التبعية بدعوى أنّ الممانعة استبداد laquo;شموليraquo; وبؤس وإذلال، وأنّ المطاوعة حرية laquo;ديموقراطيةraquo; ونعيم ورخاء.
والحقيقة أنّ الاستبداد في سوريا هو نتيجة قلّة الممانعة، لا نتيجة زيادتها. فتضخّم سلطة الأجهزة الأمنية وتسلّطها على رقاب الناس وكراماتهم هي نتيجة تبنّي laquo;استراتيجية السلامraquo;. ونتيجة ما يسمى laquo;الواقعيةraquo; في السياسات الدفاعية والخارجية والاقتصادية ـــــ الاجتماعية. وهي امتداد لمآثر الانقلابات العسكرية الأميركية في القارة الجنوبية التي مزجت سلطان الأمن بسلطان المال والأعمال، وليست امتداداً لظاهرة الأجهزة الأمنية laquo;الشموليةraquo; التي مزجت سلطان الأمن بسلطان السياسة. وفي السياسة الخارجية، فإنّ قلّة الممانعة حالت دون توحيد مصالح الشعبين السوري واللبناني على الرغم من وصاية ثلاثين سنة. والأوضح تعبيراً عن قلّة الممانعة في الاستبداد السوري هو laquo;مدرسةraquo; عبد الله الدردري في السياسة الاقتصادية ـــــ الاجتماعية التي نهلت من وصايا البنك الدولي وصندوق النقد وlaquo;الشراكةraquo; الأوروبية، لا من رامي مخلوف وأمثاله. فقد تبنّت تلك المدرسة تحت إشراف خبراء البنك الدولي وlaquo;الشراكةraquo; مآثر laquo;المعجزة التونسيةraquo;، وأخذت بـlaquo;فلسفةraquo; الانفتاح الاقتصادي وزيادة معدلات النمو، واهتدت إلى حرية السوق في الريع العقاري، وإلى السياحة وتصدير الخضار وهجرة اليد العاملة.... إلخ. وقد أفضت تلك المآثر، خلال عقد من الزمن، إلى هجرة حوالى مليون مزارع من الريف إلى ضفاف البؤس، وأفضت إلى استيلاء كبار تجار الغذاء على الأرض الزراعية وإلى توقيع اتفاقيات تجارة حرة جائرة مع تركيا وبعض الشركات الأوروبية والمصارف. وفي هذا الأمر، خضعت السلطة لضغوط دولية، لا عدّ لها ولا حصر، من أجل المزيد من هذه laquo;الإصلاحات الاقتصاديةraquo;. ولم تبلغ بها الممانعة أن تأخذ بممانعة عصام الزعيم، أو بممانعة الخبير الاقتصادي المرموق فضل النقيب وغيرهما.
ما يلبي مصالح وطموح شباب وبسطاء الناس المتضررين من الاستبداد، ليس زيادة الشيء من الشيء نفسه، على ما تسعى إليه دول laquo;المجتمع الدوليraquo; والمعارضات والنُخب الثقافية، إلّا أقل قليلها، بل إنّ ما يلبي مصالحهم وطموحهم هو القفز أبعد من قلّة الممانعة في السياسات الدفاعية والخارجية والاقتصادية ـــــ الاجتماعية، وما يلبي مصالحهم وطموحهم أيضاً هو العمل مع إخوانهم في الثورات العربية على تفكيك نموذج التبعية في تلك السياسات، وعلى ملء الفراغ العربي الذي تحتله إسرائيل. وفي هذا السبيل ليست الحريات وحدها هدف الثورات، بل بعضها هدف الثورات المضادة.