جابر حبيب جابر

تبدو نهاية القذافي نهاية لمرحلة تاريخية طويلة، ليس في ليبيا فقط، بل في عموم المنطقة العربية. فالرجل الذي تسلم الحكم في عهد عبد الناصر، ظل في سدة السلطة بعد نهاية عبد الناصر ونهاية الحركات القومية الثورية وبدء كامب ديفيد، وصعود الإسلام السياسي، ونهاية الحرب الباردة، وعاصر أيضا صعود صدام حسين وسقوطه. بدا القذافي الصورة المجسدة لمفارقات العصر وتحولاته وتناقضاته. تجلى ذلك بوصلته السنوية في القمة العربية التي كان ينتظرها كثير من العرب بشوق وأحيانا من دون التفكير بمأساة الشعب الذي يحكمه رجل مليء بالتناقضات والمفارقات. بنهاية القذافي تكون ليبيا قد استعادت بعضا من ذاتها، بعد أن حولها حاكمها إلى مجهول بلا هوية، كما فعل قبله صدام حسين بالعراق، إلى دولة تابعة للزعيم بلا شخصية غير الزعيم، وبلا وجود من دونه.

واحدة من أكبر المخاطر التي تواجه ليبيا بعد القذافي، هي أن أجيالا كثيرة ولدت وعاشت وكبرت في ظل حكمه، وأجبرت لسنوات طويلة على الاستماع لهذيانه وربما صياغة الأناشيد حول حكمته وحنكته. الأمر هنا يتجاوز حالتي مصر وتونس، ليس فقط لأن حكم الديكتاتور أطول، بل وأيضا لأن نظما من نوع النظام الذي تزعمه القذافي، والذي ما انفك في خطابات الهزيمة الأخيرة يدعو إلى تسليح الشعب والنساء والأطفال، والزحف للقضاء على laquo;الجرذانraquo; وlaquo;العملاءraquo;، مارست نوعا من السحق للإنسان، وسعت إلى تعطيل كل ملكات الخلق والإبداع ومنع التفكير فيه، مثل هذه النظم لا بد أن تخلف إرثا صعبا وتمزيقا ربما سيطفو على السطح مع كل إخفاق في إدارة الوضع الجديد.

خلافا لمصر وتونس، للثورة الليبية ميزة في أنها تحدث في بلد لديه موارد كبيرة، فليبيا ليست بحاجة إلى قروض صندوق النقد الدولي ولا تبرعات خارجية، كما أن العمليات العسكرية ورغم أنها طالت أكثر مما هو متوقع، فإنها لم تخلف دمارا كذلك الذي لحق بالعراق بعد ثلاث حروب و13 عاما من العقوبات القاسية تخللها القصف بين فترة وأخرى. بهذا المعنى، تمتلك ليبيا الكثير من الضمانات للإسراع ببناء مؤسسات دولة جديدة على أنقاض الفوضى التي كان يقودها القذافي. تلك الثورة يمكن أن تخدم في تخفيف المعاناة الإنسانية التي حصلت نتيجة الصراع المسلح، وتحقيق ترضيات مع مختلف القوى الاجتماعية والسياسية بوقت سريع.

لكن ذلك قد لا يتحقق إن ووجه سريعا بسؤال الشرعية ومتطلباتها. فالمجلس الانتقالي تشكل في ظروف بدايات الحراك الشعبي الليبي واكتسب شرعيته أساسا من الاعتراف الخارجي، كما أنه تماهى كثيرا مع نشاطات الناتو بالقدر الذي كان مجلس الحكم المؤقت في العراق قد تماهى مع الأميركيين وحسب عليهم. المجلس تأسس في وضع كانت أكثر من نصف البلاد لا تزال تحت سيطرة القذافي، وبالتالي فإن الكثير من الفئات الاجتماعية والقبائل والمناطق لم تكن متمثلة فيه، وعلينا أن نرى موقفها بعد نهاية العمليات، والمدى الذي يمكن أن تذهب فيه بعض الفئات والقبائل التي ارتبطت بالنظام أو استفادت منه، في دفاعها عنه ومقاومتها للوضع الجديد. يجب أن نتذكر أن ليبيا هي بلد مترامي الأطراف وأكبر من العراق بكثير، وبسط السيطرة على جميع الأراضي عبر سلطة قد تتعرض إلى منازعة في شرعيتها، وفي ظل وجود جيوب متمردة لن يكون أمرا يسيرا على الإطلاق.

نظام عمر طويلا في الحكم كنظام القذافي، لا بد أن استمراريته كانت مقترنة بوجود شرائح اجتماعية واسعة مستفيدة منه. وسيكون التعامل مع هؤلاء، أو تعاملهم هم مع الوضع الجديد، مسألة مهمة في تحقيق مصالحة مجتمعية سريعة. فخلافا لمصر وتونس، شهدت الشهور الماضية حربا أهلية كان جزء من الليبيين فيها يقاتل الجزء الآخر. ما زال الوضع غامضا بعض الشيء، حول طبيعة تلك الجماعات المستفيدة، وفيما إذا كانت محكومة بميول براغماتية ومنفعية، أم بولاءات على أساس الهوية القبلية. بالطبع أن ليبيا تجاوزت كثيرا دولة القبائل التي يريد القذافي أن يصورها عبر خطبه، إلا أن ذلك لا يعني نهاية المجتمع القبلي أو الكثير من العادات القبلية، ومن بينها التضامن القبلي. إحدى أكثر الإشكاليات التي واجهها العراق ولا يزال، كانت في غياب استراتيجية واضحة للتعامل مع أولئك الذين ارتبطوا بالنظام السابق أو استفادوا منه، وكانت الأعمال الانتقامية قد قادت كثيرا منهم إلى رفع السلاح.

بالطبع فإن تدخل الناتو كان أكبر عامل مساعد للإسراع بسقوط القذافي، لكن في اللحظة التي قد يتحول فيها هذا التدخل إلى مستويات أكبر مما كانت عليه، فإن شكلا من الرفض الاجتماعي سينمو، لا سيما بين الجماعات غير المستفيدة من الوضع الجديد، وقد يقودها ذلك إلى تبني آيديولوجيا مقاومة الأجنبي لتحشيد الدعم، وهو ما قد يقود إلى صراع طويل. وبنفس الوقت سيكون من الخطأ التصور أن الناتو هو منظمة خيرية لإسقاط الديكتاتوريات، فالدول التي دفعت للعمل العسكري تنتظر قبض الثمن، والميزة الليبية المتعلقة بالنفط قد تتحول إلى إشكالية مزمنة مع وجود أكثر من طرف غربي يريد أن يستثمر الوضع الجديد لصالحه.

بالمقابل، علينا أن نتذكر أنه في الوقت الذي كان فيه المجلس الانتقالي يدير عملية دبلوماسية إلى حد كبير، كان الثوار على الأرض هم الذين يقومون بالعمل المسلح والقتال ويعرضون حياتهم للخطر. أبوة الثورة قد تتحول إلى مصدر نزاع بين الطرفين، فالكثير من المقاتلين سيعتبر نفسه أكثر شرعية من رجال السياسية، خصوصا إذا ما حصل تأخير في إيجاد خارطة طريق واضحة لتسليم السلطة إلى حكومة منتخبة. لا توجد الكثير من المعلومات حول طبيعة ونسيج الثوار المحاربين، إلا أن الكثير من المؤشرات توحي بأن غالبية بينهم هم من أصحاب التوجه الإسلامي. ذلك قد يقود سريعا إلى صراع بين الإسلاميين والعلمانيين، يتداخل مع الصراع حول أبوة الثورة. في معظم الثورات المسلحة التي شهدها العالم، كان من الصعب على المقاتلين نزع أسلحتهم، وفي كثير من الأحيان يلجأ بعضهم إلى محاولة السيطرة على السلطة، وهو أمر قد لا يبدو محتملا في الحالة الليبية لوجود انخراط دولي واسع، وشرعية خارجية كبيرة منحت للمجلس الانتقالي.

الوضع الليبي سيعيش كل الصراعات الطبيعية التي شهدتها مجتمعات أخرى ظلت حبيسة أوهام الديكتاتور وسطوته، لا خوف من المجتمع على الاختلاف وحتى الصراع، الخوف هو في الفشل في إدارة الاثنين مما قد يهدد تماسك هذا المجتمع وقدرته على البقاء.