عدنان حسين

ليس بالضرورة أن يشبه رسام الكاريكاتير رسومه فيكون شخصاً مرحاً تجري النكات والطرائف على لسانه بجزالة. بل إن معظم رسامي الكاريكاتير الذين عملت معهم كانوا يتراوحون بين الجادّ والمتجهم الوجه دائماً، والقلة كانوا غير ذلك، وأحدهم علي فرزات.

لـ quot;علي فرزاتquot; الذي عملت معه سنتين كاملتين شخصية جميلة للغاية.. هو بالطبع من أبرع رسامي الكاريكاتير على الصعيدين العربي والعالمي، وهذه تأكيد لحقيقة معروفة على أوسع نطاق وليس شهادة له مني، ففنه العبقري هو شهادته العليا... روحه مرحة ونفسه طيبة وذوقه رفيع.. سريع البديهة وله قفشات تدلّ على ذكاء واضح، وهو جادّ في حبه وطنه، سوريا، كما يحب العشاق حبيباتهم، لكنه منفتح في وطنيته.. يُشعرك بأنه ابن بلدك أيضاً.. وهذا أحد أسرار أن رسوماته المناهضة للاستبداد والقمع كنا نجدها، نحن معارفه الذين جئنا إلى دمشق منفيين من عواصم عربية مختلفة، تعنينا في المقام الأول.. فالعراقي يرى أن علي إنما يسخر في رسومه من صدام حسين، والليبي يعتبره يسخر من القذافي والمصري من مبارك والسوداني من نميري والسوري من حافظ الأسد.

ذات مرة اشترك علي فرزات في معرض للكاريكاتير العربي في العاصمة الفرنسية، وكان أحد رسومه يصوّر جنرالاً عسكرياً، أو شخصاً يرتدي بزة الجنرالات، يغرف لشعبه الجائع الميداليات والنياشين من قدر شوربة. وما أن رأى سفير صدام في باريس الرسم حتى صُعق وثار وطلب إزاحة الرسم في الحال، مهددا الجهة العارضة (معهد العالم العربي) بوقف تمويلها. وقد أسعد ذلك التصرف علي فرزات مع انه لم يقصد صدام تحديداً، وإنما كل من هو على شاكلته من الحكام العرب وغير العرب.

لم يكن علي منتظماً في حزب أو حركة سياسية، لكنّه كان مثلنا، نحن ضحايا القمع السياسي في بلداننا، مثقلاً بالهمّ السياسي والاجتماعي حيال القمع والفقر والمهانة خصوصا.. كان من أيسر اليسير عليه أن ينصرف عن هذا الهم فيصبح من المحضيين والجلساء والندماء للحكام والأثرياء محدثي النعمة، لكنه كان يفضل رفقتنا نحن المقموعين المطاردين، ولا يستبدل بهذه الرفقة كنوز الأرض.

لم يكن علي فرزات يسعى إلى مكانة سياسية، لكن quot;شبيحةquot; النظام السوري جعلوا منه الآن رغما عنه وعنهم، بطلاً ورمزاً وطنياً كبيراً، وهذا من فرط ضحالة التفكير الاستبدادي لنظام الشبّيحة الذي تفتّق ذهنه المغلق عن فكرة هوجاء هي أن يتعامل مع الفنان بصورة أكثر قسوة وهمجية من التعامل مع قاطع طريق مثلا أو مهرّب مخدرات أو مغتصب أطفال.

أنا واثق من أن علي فرزات كان يضحك كثيراً في سرّه على quot;شبيحةquot; النظام السوري الذين اختطفوه الأسبوع الماضي وعذّبوه وحاولوا تكسير أصابعه وعظام يديه حتى لا يعود إلى سخريته المرسومة من أسيادهم... واثق من أن علي قد تحامل على آلامه المبرحة ورأى انه قد انتصر على جلاديه حتى وهو بين أيديهم المتوحشة، وانه كان مشغولا بكيفية السخرية أكثر من نظام الشبّيحة ما أن يخرج من براثن شبّيحته... واثق من أن أجمل سخريات علي فرزات وأقواها هي التي سيرسمها بأصابعه الملفوفة بالضماد الأبيض وفي ما بعد.

المدى