عبدالله خليفة الشايجي


ما زال عام سادراً في طريقه بكل ما حمل من متغيرات وتداعيات، وما عرف من سقوط أنظمة وتهاوي رؤوس حكام سادوا لعقود مديدة. وفيه تغير وجهنا العربي بكل ما علق به من صور نمطية، وتغيرت، استطراداً، نظرتنا لأنفسنا وحتى نظرة الآخرين لنا. والجديد أن القذافي هو ثالث رئيس عربي تسقطه ثورة شعبية هذا العام.. وبهذه الكيفية أصبحت ليبيا هي المحطة الثالثة في تدحرج رؤوس رؤساء الجمهوريات. ومع هذا السقوط الدراماتيكي لعميد الحكام العرب، وملك ملوك أفريقيا، وشاغل العرب والأفارقة، عشية الذكرى الثانية والأربعين لصعوده للحكم في ليبيا، تنفتح مرحلة جديدة أمام الليبيين الذين لا يعرف ثلاثة أرباعهم حاكماً سوى القذافي! وها هو يسقط هكذا أمام أعين شعبه والعالم من حصنه في باب العزيزية، وعلى الهواء مباشرة، متواريّاً عن الأنظار فارّاً لتوضع فدية على رأسه بغية إحضاره حيّاً أو ميتاً بعد أن كان شاغل ليبيا والمنطقة لعقود.

وقد علقنا في هذه المساحة واقترحنا تصنيفاً لأنماط الحراك والتغيير في الدول التي تشهد الحراك الثوري في فضائنا العربي، حيث برز نموذجان للحراك الثوري هما:

- التغيير بمستوى عنف منخفض وبتكلفة محدودة ونتائج مقبولة بالنظر إلى حجم التغيير المتحقق، وهنا تبرز الحالتان التونسية والمصرية حيث سُجلت خسائر محدودة مقابل سقوط رأسي نظامي بن علي ومبارك، وقد أحدث التغيير حراكاً غير مسبوق في البلدين، وولَّد هزات ارتدادية في البلدين وخارجهما محركاً المياه الراكدة، ممهداً لتحولات سياسية حقيقية منتظرة، وعلى الأجندة انتخابات برلمانية ورئاسية قادمة في كلا البلدين. وبصفة عامة فقد تغير وجه المشهد السياسي فيهما، وهو الآن متجه إلى مستقبلات بديلة، كما يأمل من ساهموا في هذا الحراك الثوري الذي زرع الأمل بغد أفضل لهذا الجيل وللأجيال القادمة بعد أن عجز أجدادهم وآباؤهم عن تحقيق التغيير.

- أما النموذج الثاني للتحولات الثورية في المنطقة فهو النموذج الدموي المقاوم للتغيير في الحالات الليبية والسورية واليمنية.

ولا شك أن القذافي، على كل حال، كان دائماً صاحب شخصية وأفكار غير تقليدية ومثيرة للجدل وفي الذهن هنا كتابه الأخضر، ونظام اللجان الشعبية وغير ذلك من شطحات لا مثيل لها في محيطه القريب والبعيد. وقد أدى نظام اللجان ذلك إلى تهميش جميع مؤسسات الدولة لعقود، فلا أحزاب ولا معارضة وليس هنالك مجتمع مدني حي ولا إعلام خاص ولا حريات، ولا حوار أو نقاش بين فئات المجتمع الذي تحكمه العادات القبلية الطاغية في المجتمع الليبي حيث تتعايش 140 قبيلة في بلد تم استبعاد وإقصاء كثير من مكوناته لعقود.

لقد كانت مبادرة دول مجلس التعاون الخليجي والمجتمع الدولي، ومشاركة حلف quot;الناتوquot;، في دعم ومساندة الشعب الليبي خياراً صائباً. والحقيقة أن الدور الخليجي كان رائداً عربيّاً في اجتماعات لجنة الاتصال، وكذلك المشاركة الخليجية في فرض حظر الطيران وتقديم الدعم العسكري واللوجستي والمالي للمجلس الانتقالي الليبي، حيث كان لذلك الدور تأثير كبير في قيادة التحرك العربي ودعم المجهود الدولي للإطاحة بنظام العقيد القذافي، وهذا يكرس محورية الدور الخليجي في القضايا العربية.

أما الاستحقاقات التي تنتظر ليبيا ما بعد القذافي فعديدة ومعقدة. وقد يكون الأهم أن quot;المعركة الأكثر ضراوة لم تبدأ بعد، وهي معركة إعادة الأعمارquot; كما يقول محمود جبريل رئيس المكتب التنفيذي للمجلس الوطني الانتقالي. ولعل أول التحديات والاستحقاقات، تفصيلاً، هو احتواء القوى التي خاضت حرباً مفتوحة لأكثر من نصف عام، وإعادة ليبيا لوضع الدولة العادية بعيداً عن العسكرة والخلافات التي تموج بعيداً عن الأنظار، وكذلك الحاجة إلى ضبط إيقاع جميع مكونات المجتمع الليبي وسط مخاوف من انقسام بين فئات الثوار، وما قد يبرز من نتوءات برزت مع اغتيال القائد العسكري للمجلس الوطني الانتقالي عبدالفتاح يونس، وكذلك كيفية التعامل مع الشباب الثائر والمسلح ودمجه مع قوات القذافي السابقة في الجيش الليبي الجديد. ولاشك أن سقوط القذافي سيعطي زخماً ودفعاً وحماساً كبيراً لقوى التغيير في الداخل الليبي، وكذلك في بلاد الحراك الثوري. وهناك حزمة كبيرة من الاستحقاقات السياسية والاقتصادية قد يكون أبرزها العلاقة مع المجتمع الدولي ودول quot;الناتوquot; والشركات الغربية التي لعبت دولها دوراً قياديّاً في إسقاط نظام القذافي.

وكذلك تنتظر المجلس الوطني الانتقالي، الذي يتوقع أن تنتهي مهمته خلال أقل من عام، تحديات سياسية أخرى عديدة ليس أقلها ضرورة التأسيس لنهج سياسي تعددي وتكريس ممارسات ديمقراطية بناء على ترتيبات تشريعية ومؤسسية جديدة، تتضمن دستوراً جديداً وحكومة وبرلماناً ومنتخباً، وبالتالي تتحول ليبيا إلى دولة مؤسسات بعد أن كانت لعقود مديدة مشاعاً للقذافي وحده.

أما التحديات الاقتصادية فتكمن في التعامل مع المجتمع الدولي والأمم المتحدة والشركات النفطية للإفراج عن عشرات المليارات من الأصول والاستثمارات الليبية المجمدة، وكيفية التعامل معها. وكذلك تأمين دخل وإعادة القطاع النفطي الذي سيحتاج إلى ثلاثة أعوام ليعود الإنتاج فيه إلى مستوياته السابقة على الثورة والحرب. وهناك أيضاً التحديات الاجتماعية لشعب يجد نفسه في حاجة إلى أن يتم تأهيله وتحضيره للتعبير عن رأيه والانخراط في مجتمع حر بعدما تم كسر حاجز الخوف والترهيب الذي ساد لعقود.

ومع هذا فإن الخشية على ليبيا كبيرة من تحديات تشتت الجهود وتبعثر القدرات. ومن ثم فإن على الليبيين، والدول التي لعبت دوراً في دعم التغيير هناك، العمل من أجل ألا تتكرر أخطاء كتلك التي وقعت في مرحلة ما بعد صدام في العراق، وما بعد quot;طالبانquot; في أفغانستان. كما أن على الجميع أن تتوقع احتمال ظهور تحديات داخل مكونات المجتمع فيتم العمل على احتوائها، بدمج فئات المجتمع وتأهيل ومساعدة النظام الجديد، وتقديم الدعم اللوجستي، والإفراج عن الأصول المجمدة في أوروبا وأميركا، لأن ليبيا ليست في حاجة إلى مساعدات وقروض عربية ودولية، وهي غير العراق وأفغانستان، لأنها دولة غنية وعندها استثمارات بعشرات المليارات.

وفي المحصلة النهائية لا شك أن ليبيا تقف اليوم على مفترق طرق في طريقها إلى مرحلة ما بعد القذافي على جميع المستويات، ومن وقف مع ليبيا حتى وصلت إلى هنا عليه أن يستمر أيضاً في الوقوف مع الليبيين لمساعدتهم على عبور أصعب مرحلة منتظرة. ولحسن الحظ حقاً أن ليبيا تملك جميع مقومات النجاح إذا أُحسن استغلال ما لديها من موارد وقدرات وتصميم وإرادة. وإلا فإنها ستتحول، لا سمح الله، إلى دولة فاشلة، ومن ثم لا يصل التغيير الثوري إلى مبتغاه ولا يحقق أهدافه المطلوبة. وفي ذلك انتكاسة لليبيا وللربيع العربي بعد أن اكتسب زخماً حقيقيّاً مع سقوط القذافي.