مطاع صفدي


هل كلّ ثورة تَكتب مستقبلها اعتباراً من لحظة حاضرها. هذا التساؤل في فلسفة التاريخ ليس إثباتيّاً ولا إنكاريّاً. لكنه قد يُوحي بنقطة ثقة واحدة في الأقل، وهي أنه ليس لثورةٍ أن تكون ضامنة لمستقبلها منذ بدايتها. فلا ننسى أن الثورة هي ضرب من لامعقول التاريخ ظاهرياً.
إذ أنها فعل إستثنائي يحدث فجأة، ويقطع التسلسل السطحي لمنطق الأمر الواقع. فقد ينجح هذا الفعل في إحداث قطيعته تلك في صلب الواقع، ما يجعله ينتج نسقاً آخر من منطق الحدوث، يدخل في صراع وجود مع أنساق الواقع القائم. من هنا اعتاد الفكر التحليلي على النظر إلى الثورة كفعل طارئ، متدخّل من خارج، على ما يبدو أنه قائم ومسّتتب في الحياة السياسية العامة. كأن للثورة إذن طابع المغامرة التي تَحْتَمل أحد المصيريْن: الفشل والنجاح. وقد اعتادت الذاكرة الإنسانية ألا تحتفظ بقصص الثورات الفاشلة، بقدر ما تمجّد من تلك القليلة، لكنها المنتصرة، والمُحْدثة لطفرات التقدم الفاصلة في سِيَر الأمم الحيّة، كما في مسيرة البشرية عامة.
نقول إن الثورة العربية في حقبتها الجمهورية الراهنة، وغير المألوفة إلا نادراً في حقباتها السابقة، ربما قلبتْ نموذج هذا التحليل. فهي ليست فعلاً طارئاً أو تدخلياً على الواقع السائد، بل لعلّها امتلكت من أسبابها الحقيقية ما هو أقوى وأعمق من أسباب الواقع الموصوف بكل أشكال التقهقر المادي والمعنوي تحت مصطلح الواقع الفاسد الجاثم فوق صدر الأمّة. هنالك إذن نسقان من الوقائع القائمة، والممكنة. فالأولى أصابها الجمود والتخثّر واستنفاد مسوّغاتها النظرية والعملية؛ وأما الثانية الموصوفة بالممكنة، فهي التي تأتي أفعال الثورة لتبرهن على خصبها الحدثي، وجدارتها فكرياً وأخلاقياً. فهي بقدر ما تكون كاشفة لأعطال الواقع الفاسد، فإنها تثبت هشاشتها كذلك. إذ يمكنها الإطاحة بها أو تشتيت فعاليتها تمهيداً لمحو آثارها القاتلة، من مجرى الحياة العامة.
لكن هل يمكن القول أن الثورة هي فقط في وقائعها المادية المُشَخْصَنَة، كأنها لا تكون إلا بما تُنجز، وإنجازها الأول هو فعل سلبي يُوصف بالجهد التدميري الموجّه ضد القوى الحارسة لمفاعيل الواقع السياسي المباشرة؛ فهي تطويرٌ أخير للمعارضة، التي من صفاتها أنها كانت لا تقطع مع السلطة، ولا تطرح أقصى المطالب، وهي أقرب إلى ممارسة النقد المعتمد على المحاججة العقلانية، لذلك تقبع المعارضة تحت سقف الإصلاح، وترفض أو تعجز عن تخطيه. وهنا يأتي دور الثورة، فهي لا تضع حداً للمعارضة، بل ربما تدعها تمارس عاداتها القديمة، من حيث محافظتها على موقعها داخل النظام القائم. لكن الثورة هي التي تنشل فكرها وممارستها معاً من داخل عنكبوت النظام، وبذلك لن تقف حيادية طويلاً، تجاه معارضة لا تزال تتمسّك بإمكانية التصالح مع السلطة، بعد إحداث بعض الإصلاحات في هيكل سطحي للنظام، دون المسّ المادي بمفاصله.
المعارضة والثورة قد تتوازيان قليلاً، لكنهما لا تلبثان حتى تفترقا عند نقاط القطوع الحاسمة. وفي حال بعض الانتفاضات العربية الراهنة قد يتحدّى أهلُ الحُكْم الثورةَ، بتقبّل التعاون مع بعض أجنحة المعارضة؛ على أمل عزل الثورة نفسها كهدف مركزي لحِراك الشعب. وقد تدخل أنظمة عربية كثيرة المناورةَ القصوى في التلاعب على حبليْ الثورة والمعارضة، وذلك بتحويل قطاعات من المعارضة إلى مجرّد فرقاء محتملين في إنجاز مشاريع إصلاحية، وقد يصل بعض هؤلاء إلى مرتبة شركاء للحكّام. فالمناورة القصوى في هذا المجال المضطرب تستهدف إغراق شعار الإجماع الشعبي حول إسقاط النظام، إن لم يكن قد سقط رأسه بعد كما في تونس ومصر وليبيا، أو لا يزال قابضاً على قمة الهَرَم، كالحال في سورية، وفي أقطار أخرى مرشّحة لمصائر التغيير المحتوم.
من يملأ كراسي الحكم العربي بعد خلوَّها من (أجساد) جالسيها القدامى. ذلك سؤال عاجل يتطلب أن تجيب عنه الجماهير الثائرة نفسها، وليس دعاة الثورة أو أرباب المعارضة وحدهم، لكن هؤلاء لعبوا دائماً أدوار الوسائط المعبرة، فهم المدّعون النُطْقَ برغائب الناس الغاضبين أو الناقدين. مع العلم أن الوضع الجماهيري قد تخطّى الإنقسام أو التمييز بين أهل النقد وأهل الثورة. فالغضب العارم يوحّد ما يسمَّى بالقاعدة الأساس في مختلف أصقاع العرب. لم يعد الناس العرب مجرّد محتجين أو معترضين، بل هم غاضبون باحثون عن حياتهم الضائعة، وعن كرامتهم الُمهانة والمُذَلّة. لم يبقَ للطغيان حدود وبالتالي لن يكون للغضب حدود. فلا شيء يمكنه إعادة التوازن بين مطالب الإصلاح المراوغة، وصواعق الانفجار الثوري التي تخلّفها وراءها إنجازاتُ الطغيان في سياق الإرهاب الجماعي المجنون. إذ أن الثورة تجبر الاستبداد أخيراً على إظهارِ وممارسةِ جوهر سلطانه، كعنف إرهابي محض. كان يحاول توريثه تحت شعارات سياسية قومية زائفة.
يفوت الوقت بين خيار المعارضة أو الثورة مع إندلاع القضية الشعبية المستديمة الهادفة إلى التغيير الجذري. فالفعل الجماهيري أبطل المسافة الدقيقة بينهما. في القانون الجنائي لا يتاح للمجرم. الُمدان بمقتلاته اليومية، أن يتصالح المجتمعُ معه إلا بعد تأدية عقابه المحكوم به قضائياً. فحين يصبح شعار إسقاط النظام هدفاً جماهيرياً لغالبية الغاضبين والصامتين معاً، هذا يعني إصدار حكم قضائي باسم الأساس الجوهري لكلّ مشروعية الذي هو الحق العام؛ فهل يمكن للنظام الُمدان أن يميّز في تكوينه البشري بين ذات مبرّأة وأخرى متورّطة في المسؤولية عن القرار والممارسة معاً.
للجواب على ذلك قد يقال أنه كان للحوار ثمّة أدوار تشاورية قبل أن يَنشب النظامُ مخالبَه في لحم الطائع والعاصي من السكان الآمنين، ولكن المشكلة اختلفت كلّياً في طبيعتها المفهومية، وفي أعبائها القانونية. فبعد المجازر، لن يكون لما يُسمَّى بالمعارضة ذاتُ الوجوه والأسماء أو المواقف؛ لتَشْــرع في اختيارات مختلفة، بدءاً من المبدأ القائل أن النظام الفاقد أساساً للمشروعية الإنسانية، لم يعد جائزاً له أن يشرّعن حقوق المواطنة الطبيعية أو الدستورية في مجتمع قرّر أحراره أن ينتزعوا حقوقهم الحقيقية وأن يمارسوها من مدخلها الحقّاني الأول الذي هو: الحرية. فقديماً قيل أنه لم تُعطَ الحرية طوعاً، بل تُؤخذ غِلاباً.
ذلك هو الفارق الأصلي والمستديم بين الإصلاح والثورة. إذ يبقى الأول مجرد منحة من الأعلى لمن هو أدنى، بينما تنسف الثورةُ هذه العلاقةَ العمودية المتحكّمة بالناس، كمجاميع قطيعية سديمية، معلّقة رقابُها بعصا الراعي الوحداني. فالنظام المتداعي في دمشق يمنّ على الشعب بدعاوى قوانين لفظية، مارَسَ، ولا يزال، كلّ نقائضها الصارخة طيلة أربعة عقود ونيف من الحفاظ على نموذج السلطة الرعوية بالمعنى المضاد، بحيث يتحالف الراعي مع قطيع من الذئاب لحماية قطيع أغنامه! وقد شهدت سورية، والعالم معها، العينة القصوى المتكررة فصولُها كلَّ ساعة منذ ستة أشهر، عمّا يعنيه صراعُ ذئاب السلطة مع المسالمين من أبطال الثورة، فقد استخدمت سلطة الإصلاح جيش الوطن لمحاربة شعب الوطن، واحتلال مُدُنه وأريافه الثائرة. فكانت ثورةُ كل شعار، كل مظاهرة، كل نهار أو ليل، تقاتلها الأيدي الدموية عينها التي تكتب (مبادئ) الإصلاح وقوانينه.!
ذلك التناقض الدهري بين 'الصلاح' في الأقوال وشر الأفعال؛ مرض عُضال لا يريد شفاءً منه نظام الأنظمة العربية، البائد منها والمنتظر ساعته. والحال أن هذا النظام لم يعد يمكنه إخفاء تفكّكه الذاتي. فمنذ أن انهارت قلعته الكبرى في القاهرة اختلّ توازن الأطراف كلها. فَقَدَ نظام الأنظمة العربية قدرته على ترقيع ذاته بذاته. لم يتبقّ للإصلاح قضية، أو دعوى تاريخية. كان نظام الأنظمة العربية هو المحصّلة السياسية لأعطال النهضة الثانية بعد أن أمست هذه محكومة بفشل جولات حاسمة لوعودها الكبرى التي تدعوها تاريخية ومؤسسية لحضارتها القادمة. صارت المهمة المكرّسة لنشأة نظام الأنظمة هذا واستمراره هو نجاحه المضطرد في تصفية عوامل كل نهضة أخرى مأمولة وممكنة، وليس في تحنيط جثمان النهضة الماضية فحسب، والارتزاق السياسي من أطلال ذاكرتها.
لقد أضاعت السياسات المتسلّطة أهمّ فرص التقدم والحداثة الحقيقية التي انفتح عليها عصر الاستقلال الوطني، وظهور أكثر من عشرين دولة عربية سيادية في ظلِّ القوى العظمى الحاكمة لعالم ما بعد الحرب العالمية الثانية. كان من أخطر عوامل الانهدام الذاتي هو استعصاء وانغلاق كل دروب التطور التاريخي أمام بلوغ الحرية مركز الحاكمية الحقّانية ما فوق هياكل السلطات المتتابعة والمتنافية فيما بينها. سؤال من هو الحاكم؟ لم يكن يُشغل جيلَ الاستقلال إلا من خلال السؤال الأعم: من هو الحاكم المناهض فعلاً وقولاً لإسرائيل والاستعمار. هنالك نوع من شرعية فوق الشرعيات التقليدية تطرحها الأمم المكافحة كفاحَ الوجود والعدم، قد يستحقها زعماؤهم، أو يتساقطون دونها. هذه الشرعية كانت تتطلّب أن يرقى كل رئيس إلى مستوى زعيم قومي وقائد تاريخي، لكن شعوبنا المتعثرة كانت الضحية الأولى المميزة للعبة الأمم خلال الحرب الباردة. فقد حيل بينها وبين حماية الحرية الجماعية في كنف استقلال ناجز وصامد. فلم يتح لها أن تمارس قرارها القومي إلا لمرة واحدة، عندما أعلن أهم شعبين متحركين في القاهرة ودمشق، رئاسةَ جمال عبد الناصر لأول 'جمهورية عربية متحدة'.
كانت تلك الجمهورية، المعتّم عليها كلّياً من العرب وأعدائهم معاً، لو استطاعت الصمود أكثر من الأعوام الثلاثة التي عاشتها، هل كان لعقد الستينيات المشؤوم من القرن الماضي أن يبلي العرب بأخطر هزيمة تعدّت كونها حربية فحسب، لكي تصيب الصميمَ من مشروع النهضة. فعاش تاريخ العرب بعدها حقبة الثورة المضادة في مختلف أعراضها السوداء والحمراء.
كل ما أتى بعد الهزيمة النكراء، صار عبارة عن تنمية خبيثة مضطردة لعوامل سيطرتها. فقد حزم الغرب والصهاينة أمرهم على مبدأ واحد وهو ألا تتكرر تجربة أخرى لوحدة العرب، كانوا يعرفون أنها هي المفتاح الأصلي المفقود دائماً لباب الحرية العريض. هكذا وُلدت صيغةَ 'نظام الأنظمة العربية'، كتعويذة شيطانية ضد أن يصل أي شعب عربي يوماً ما إلى صيغة أن يكون هو الحاكم والمحكوم بأمره وحده. هكذا يجب أن يُفهم الربيع العربي. قد يكون هو العائد بمفتاح الحرية الضائع الذي فَقَده جيلُ النهضة طيلة خمسة عقود. ولعله لن يُفقد ثانية...