ياسر الزعاترة

ليس من العسير القول إن سياسة بشار الأسد منذ بدء الثورة الشعبية في سوريا قد استقرت على ما يمكن وصفه بسياسة القتل بالتقسيط، ولا نعرف ما إذا كان ذلك نتاج نصائح إيرانية، أم نتاج نصائح وجهتها نخب قومية ويسارية تهيم عشقا بنظام المقاومة والممانعة وتخشى عليه من السقوط بيد الإمبريالية والصهيونية!!
واللافت أن النظام لم يترك تلك السياسة (القتل بالتقسيط) من دون مبرر، فقد منحها مبررا مهما يتمثل في وجود مسلحين وسلفيين وإرهابيين يجوبون المدن والأرياف ويقتلون الناس ورجال الأمن، ولا بد تبعا لذلك من الرد عليهم بالرصاص.
من الضروري الاعتراف بأننا إزاء سياسة بالغة الذكاء، إذ يدرك النظام أن سياسة القتل بالجملة على شاكلة مذبحة حماة عام 82، بل ما دونها بكثير، لا يمكن أن تمر بحال، وقد تفضي إلى تدخلات دولية، كما أن تداعياتها الداخلية ستكون خطيرة على نسيج المجتمع السوري الذي بات منقسما رغم محاولات رموز الثورة التأكيد على رفض البعد الطائفي.
في المقابل يدرك النظام أن التوقف عن سياسة القتل بالتقسيط سيعني أن ملايين السوريين سينزلون إلى الشوارع خلال الأيام التالية، ولنتخيل مثلا لو تأكد الناس أن بوسعهم الخروج إلى الشوارع كما في اليمن، ثم العودة إلى بيوتهم بأمن وسلام، ما الذي يمكن أن يحدث؟!
وتخيلوا المشهد لو كان بوسع السوريين التجمع في ساحة الأمويين أو العباسيين في دمشق ونصب الخيام كما في ميدان التحرير في القاهرة، ما الذي يمكن أن يحدث؟ وكم هو عدد المحتجين الذي سيتجمعون هناك؟!
يدرك النظام إذن أن وقفه لآلة القتل سيعني أن ملايين السوريين سينزلون إلى الشوارع، وأن سقوطه لن يستغرق أكثر من أيام أو أسابيع في أبعد تقدير، وبالتالي فهو يبث الرعب في صفوف الناس ويقنعهم بأن احتمال الموت والاعتقال إذا نزل أحدهم إلى الشارع يبدو عاليا قياسا بأية حالة مشابهة.
إضافة إلى ذلك، يقوم النظام بعسكرة الوضع برمته، لا أعني اقتحام المدن وترويع الناس فقط، بل أيضا تسجيل حضور أمني رهيب في الأماكن المهمة والحساسة، كما هو الحال في دمشق وحلب، وبالتالي لا يسمح بأية تجمعات كبيرة يمكن أن تستمر وتدفعه إلى فضّها من خلال عمليات قتل واسعة النطاق تكون لها تداعياتها الكبيرة.
هي سياسة بالغة الذكاء من دون شك، لكن ما يفشلها إلى الآن هو إصرار الشعب السوري على الحرية، ووجود قطاع جيد من الشبان المقبلين على التضحية والشهادة، وهؤلاء في الغالب هم أبناء المساجد وروادها الذين يخرجون منها مدججين بروحية المقاومة والشهادة في سبيل الله، أي أنهم يخرجون وهم يضعون أرواحهم على أكفهم غير عابئين بما يمكن أن يفعله النظام، ومنهم القطاع الرائع من أولئك الذي يحملون الكاميرات ويخوضون حرب الصورة مع النظام الدموي.
لعل ذلك هو ما جعل الثورة في سوريا أقرب إلى ثورة المساجد منها إلى أي شيء آخر، والسبب أنها (أي المساجد) هي مكان التجمع الوحيد المتاح (في الصلوات العادية وصلاة الجمعة)، بينما يتدخل الأمن لتفريق أية مجموعة تحاول التظاهر في أي مكان عام آخر، كما هو حال الساحات العامة ذات الأهمية، ومن حاول منهم سيكون برسم الاعتقال، ونعلم أن الاعتقال بالنسبة للسوريين العاديين (دعك من الرموز المعروفين الذين يعتقلون بطريقة جيدة ولا يتعرضون للتعذيب)، نعلم أنه شيء مرعب يتفوق على الموت في بعض الأحيان، حيث يعلم الناس ما يجري في أقبية التعذيب في سجون المخابرات والأجهزة الأخرى، والخلاصة هي حاجة الشاب إلى قدر هائل من الشجاعة حتى يعرض نفسه للاعتقال عبر محاولة تنظيم تجمع هنا أو هناك.
القضية بالغة الصعوبة بالنسبة للسوريين في مواجهة نظام دموي قتل منهم منذ انطلاق الثورة الحالية ما يزيد على ثلاثة آلاف، بينما لا يُعرف عدد المعتقلين على وجه الدقة، فيما يرى كثيرون أنهم يزيدون عن عشرين ألفا.
المهم في هذه القضية هو أن الجماهير قد كسرت حاجز الخوف، ولن يتمكن النظام من إعادة الوضع إلى ما كان عليه بأي حال، بل إن عدد الشهداء الكبير ومعهم المعتقلون سيمدون الثورة بالمزيد من الإرادة والتصميم على الانتصار.
النظام السوري ساقط لا محالة مهما استغرقت المعركة من وقت أو تضحيات، وحتى لو تحولت من سلمية إلى مسلحة، وهذا ما لا نتمناه ولا نشجع عليه، فلن يتمكن من القضاء عليها، بل ربما سرّع ذلك في سقوطه، مع فارق أن التضحيات ستكون أكبر بكثير.