الأسد quot;الحكيمquot;، حسب شبيحة إعلامه، وquot;الظليمquot;* حسب الواقع والحقيقة، لم يتورّع عن منع دخول الحليب لأطفال البلدات المحاصرة في سوريا. شيء لم يفعله زبانية الاحتلال، أيام الانتفاضة الفلسطينية الأولى_ حين كانت هذه في أوجها المبكر سلميةً.
لست في وارد مديح الاحتلال بالطبع. فالاحتلال بشع، والاحتلال الإسرائيلي الكولنيالي أبشع من البشاعة نفسها. ولكنني، مع هذا لم أستطع منع نفسي من المقارنة وأنا أسمع الخبر، وبالتالي: الإحساس المؤسف بهول المفارقة.
إنّ رجلاً في سدة الرئاسة، يأتي صنيعاً كهذا مع أطفال شعبه، لهو رجل لا يستحق أن يكون رئيساً ولا حاجباً في معيّة الرئيس.
ثمة خطوط حمراء في كل شيء. لكنّ هذا لا ينطبق على منطقتنا العربية، ولا على حكامنا العرب. فالكائن غير ما يجب أن يكون. والبداهات، التي رسّخها العالم المتمدن منذ زمن طويل، لم تصل البرابرة بعدُ وبعدُ.
لكنْ: لماذا أستغرب وأستهجن منع الحليب عن الأطفال، وقد أراق الأسدُ دماءَ آبائهم وأخوتهم وأمهاتهم؟
لو كان الأسد حكيماً، كما يقول شبيحته، لما أوصل الأوضاع في بلاده لهذه الهاوية. فالسوريون، كالتونسيين والمصريين، حين بدأوا انتفاضاتهم المطلبية، كانوا يبغون إصلاح النظام من داخله، وكفّ يد الأمن عن أفق حياتهم العام والخاص: كانت لهم مطالب حياتية اقتصادية وسياسية محددة. وأبداً لم يكونوا في وارد المطالبة بقلب الهرم على رأسه، ثم في مرحلة لاحقة : إزاحة النظام برمّته ورميمه. لكنّ أنهار الدم التي جرت، أوصلتهم لما هم فيه الآن، من الإصرار على طيّ الصفحة بجميع مفرداتها، وفتح عهد جديد في سوريا: عهد المواطنة والديمقراطية الحقيقية ومرجعية الشعب لا مرجعية الحزب والعائلة.
الوضع قاسٍ لا شك، بل بالغ القسوة. فالسوريّون مجروحون في أعمق أعماقهم، بعد خمسة شهور من لامبالاة وquot;فرجةquot; العالم كله عليهم. لكنْ لا بأس يا أحباءنا هناك. لا بد من ثمن باهظ لتنالوا حريتكم، خاصة مع نظام همجي كنظام الأسد.
إنه مكر التاريخ، أن أتاكم برئيس محدود القدرات هو وحاشيته، يفتقر للذكاء فيتذاكى. فتنكشف، من ثم، كل عوراته ومخازيه. إنّ هذا يُقصّر الطريق عليكم. وها هي أولى البشائر: أوباما، بعد تردد مخز، يطالب بتنحيته. جيد. سيذهب العالم كله وراء أوباما. وعليه، فلن يبقى للأسد من غطاء سوى إيران. لقد بدأ العدّ التنازلي إذاً لذهابه. سيستذئب أكثر في قادم الأيام والأسابيع وربما الشهور. هذا متوقّع. لكنه لن يفلت. إنه الآن في quot;عزلة الذئب الجريحquot;، ولن يمرّ وقت طويل، حتى نسمع آخِر عواء متحشرج يخرج من رئتيه.
مكر التاريخ! مكر التاريخ الذي أودى بكل الطغاة السابقين، من أمثال هتلر وموسوليني وشاوشيسكو وصدام حسين، وصولاً لبن علي ومبارك، سيودي به هو الآخَر.
أحياناً أُعزّي نفسي بالتفكير على هذا النحو: إنّ من حسن حظنا كشعوب معدومة الحظ، أنّ طغاتنا لا يقرأون. وأنهم يفتخرون بهذا الجهل المدوّي، في جلساتهم الخاصة. فلو كانوا يقرأون ويستوعبون، لراوغونا وحايلونا، فطال حينئذ طريق الخلاص علينا _مع أنه طال وطال، بما لا يليق ببشر أسوياء، إنما لا بأس. هذا هو حالنا ومآلنا. لقد أفسدنا الطغاة بطول مكوثهم فوق صدورنا، مسخونا وأنهكونا، لكن كل هذا صار من الماضي. واليوم زمن جديد وعهد جديد: لن نسمح لأحد باستعبادنا بعد اليوم.
تلك هي رسالة الشعوب العربية لذاتها ولحكامها. والذكي، ممن لم يأت عليه الدور بعد، مَن يلتقط الرسالة ويستوعبها، قبل فوات الأوان. أما إذا لم تصل الرسالة، وضاعت في الطريق، أو قصّر ساعي البريد في توصيلها، فعلى الحاكم العربي أن يجهّز نفسه لمصائر ثلاثة أحلاها مرّ: الإعدام أو الهرب أو السجن.
لم يبق من خيار وسط كل هذا الدمار.
ومع أننا نتمنى للشعب السوري البطل، أن تكون نهاية ثورته كنهاية الثورتين التونسية و المصرية، إلا أننا نعرف أنْ quot;ما كل ما يتمنى المرء يدركهquot;. فنحن أمام طاغية شمولي ستاليني بالطبعة القديمة للكلمة. طاغية مهووس بالعنف، على نحو فريد في التاريخ، كالقذافي وكيم إيل سونغ. ولذا نخشى على الثورة السورية من سيناريو أسوأ: سيناريو أشبه بما يحدث الآن في ليبيا، كما قال أردوغان.
ألله يستر!

* الظليم، في الدارجة: الظالم. وفي القاموس هو ذكر النعام. وكلا المعنيين، ينطبقان على الحاكم السوري.

ملاحظة داخل الموضوع : اثنان لم يتوقعا هذه الثورات: الحاكم العربي وخصيمه المثقف العربي! يا لها من مفارقة فيها من الهزل أكثر مما فيها من الرعب.