أفكّر كثيراً: تُرى لو تحرّك الرأي العام العربي، تجاه أحداث سوريا، هل كان الأسد ليتغوّل مثل هذا التغوّل في قتل وسحق وترويع شعبه؟
لكنني أعود وأفكّر كثيراً أيضاً: وهل الطغاة العرب يهمّهم رأي عام أو بطيخ؟ هل الوالغ في الدمّ، يهمّه _ حقيقة _ ما يُقال عنه؟
ثم أعود وأفكّر كثيراً أيضاً وأيضاً: هل للطغاة أذان وعيون _ دعكم من القلوب الآن _ يسمعون ويرون بها، مثل سائر البشر؟
والله أذهلتني يا بشار!
مرّة quot;ممانعةquot; ومرّة quot;مقاومةquot;، وحين جَدَّ الجدُ، لم تجد من quot;تمانعه وتقاومهquot; غير شعبك! ويا ليتك مانعته وقاومته، مثل إللي بالي بالك، وإنما هوب هوبّا: دبابات ومدافع وطائرات، دفعة واحدة.
اللعنة!
أنت يا فاقد الشرعية، منذ وُرّثتَ المزرعة، ها أنتذا تفقدها مرة أخرى بمجرد إطلاق الرصاصة الأولى في درعا.
الرصاصة الأولى، وقد تسرطنت إلى مليار رصاصة وقذيفة، ومع هذا لم يتحرك الشارع العربي الإسلامي quot;خاصتناquot; ولا جامعته المقبورة [أُشفق في هذا المقام على نبيل العربي، الذي أحترم ماضيه، وأتمنى عليه أن يحافظ على بهائه، فيهربquot;الآن الآن وليس غداًquot; من الخازوق الذي ينتظره، كسلفه سيء الذكر عمرو موسى]. فقط هي مجرّد اعتصامات متناثرة، تجري هنا وهناك، في القاهرة وعمان وبيروت ورام الله والناصرة، فلا تُشفي غليلاً ولا تضيء فتيلاً [أما هنا في غزة، فكل من يفكر باعتصام تضامني ينتظره بيتُ خالته وربّانيّو هذا البيت]
لم يتحرك الشارع العربي. لم تخرج المظاهرات في ميادين العواصم بالعدد الذي يملأ العين. وكأنّ الشعب السوري يعيش في أُستراليا أو كندا.
منذ مارس الماضي، ومسلسل الذبح مستمر، وسط صمت مدوٍ، فهل من هدية أفضل من هذه تُهدى للديكتاتور الشاب؟
وهل تعي الشعوب العربية مقدار ما ترتكبه من جريمة أخلاقية [في المحلّ الأول] وهي تصمت على مجازر الجزار؟
الصمت عار؟ بلى، وفي الحالة السورية: انحطاط أخلاقي أيضاً.
انحطاط تعانيه هذه الشعوب، سواء درت أم لم تدر.
نعتب على أمريكا والغرب والمجتمع الدولي quot;الأقوياءquot; في صمتهم وترددهم حيال سوريا، وهم المحكومون بالمصالح، فبماذا نحن quot;الفقراءquot; محكومون ونحن في حلّ من وسخ المصالح؟
أليس من موقف أخلاقي في الأقل؟
كنت آمل وأترقب وأنتظر، أن تخرج مظاهرات كبيرة في غير عاصمة عربية لنصرة السوريين. [ولماذا لا نقول في كل العواصم؟]
كنت آمل وأنتظر، ولكنْ، حتى اللحظة، لا جدوى.
أحرار الشام يموتون، أطفالاً وشباباً وشيوخاً، والعرب مسترخون يعاقرون أفيون مسلسلات رمضان.
يا للهول!
يا للفضيحة الأخلاقية.
يا لتبلّد الأحاسيس.
عندما كنا ننتفض نحن الفلسطينيين، كانوا يملأون الساحات والشاشات من المغرب حتى عُمان. فماذا جرى كي يحلّ عليهم الصمت الآن؟
أليست الجريمة هي ذاتها في الحالتين؟
بل إنّ قاتل شعبه أسوأ من قاتل أعدائه، والتظاهر ضد من يقتل شعبه، أولى من التظاهر الثاني.
وقبل أن تعتبوا على الغرب، على أمريكا وأوروبا، اخجلوا من أنفسكم.
لا يوجد مثل الدم السوري في نصاعته ووضوحه.
دم الأبرياء والمدنيين.
دم أهلكم.
الدم المسفوح تحت جنازير جيش الأسد لا جيش يوسف العظمة.
واأسفاه يا جيش سوريا.. كم خنت أمانتك!
اللعنة مرة ثانية!
من وين يتلقاها السوريون؟ وسوى العرب خلف ظهرهم عرب؟ وسوى الجيش أمام صدورهم حرسٌ جمهوري؟
جيش لم يعد جيشاً منذ أن سيطرت عليه أجهزة الأمن، ومنذ أن تخلى عن مهمته الأولى: حماية الشعب والوطن.
أما أنتم يا أحرار سوريا وأملها، فإنّ مئة جيل سيأتي بعدكم، سيكون مديناً لكم بحريته وحياته السوية، فلولاكم، لولا تضحياتكم في هذه الشهور العصيبة، لما أُتيح له أن يعيش ويحيا، كما تعيش وتحيا شعوب متحضرة معافاة على سطح الكوكب.
إنكم تصنعون فجر الحرية الكبير، بأفدح الأثمان [لا بدّ] بينما الطاغية يختنق بخيطان قوته التي تلتف حول رقبته. سواء عرف أو لم يعرف.
لحظة تراجيدية بامتياز، وفوق قدرة الكتابة بامتياز أيضاً. فبوركت يدُ الذي رفَعَ اليافطة وحنجرةُ الذي هتف، وكتفُ الذي حمل شهيداً أو ذبيحاً. بوركتم وأنتم تواجهون نازياً لا يقلّ نازيةً عن جنرالات إسرائيل الصغار.
وإنّها لثورة شعب، أراد اليومَ، فجرَهُ، وإنّ فجرَهُ لأقرب إليه من حبل الوريد.