إن عقلية العنف والاستئصال السياسيين والأيديولوجيين، تجلب الكوارث، وتتسبب في سفك الدماء، سواء تشبع بها فرد مهووس، أو سياسي محترف، أو حزب، أو سلطة حاكمة، أو شبكة تطرف إرهابية كالقاعدة. والعنف السياسي والإرهاب هما بلا جنسية ودين، ولكنهما درجات، وما هو السائد المهيمن منهما في العالم هو الإرهاب quot;الجهاديquot; العابر للقارات باسم الإسلام.
إن مأساة أوسلو الرهيبة الموجعة، التي لا يمكن إلا أن نحزن لضحاياها من الصبية والشباب الأبرياء، ولعائلاتهم، حدث مفزع حقا، ويكشف من جديد عن مدى ما يمكن أن تصنعه الأفكار المتطرفة المعادية للآخر بالإنسان، وتحوله لوحش همجي حتى تجاه أبناء بلده- [ قيل إن المجرم، الملقى عليه القبض، يحمل أفكارا متطرفة وسادية، مشبعة بكراهية الآخرين والحقد عليهم]. وهذا ما يمكن قوله في هذه اللحظات إلى أن تكتمل تحقيقات البوليس التي لا تزال جارية للتوصل، وحتى إعلان كامل الحقائق عن هذه الجريمة النكراء. وحينئذ يمكن تخصيص مقال منفرد عن هذا الحدث المثير حقا.
لقد ارتأيت افتتاح هذه الحلقة من مقالي بهذا التعليق الخاطف عن جريمة أوسلو، لأنها تثير إدانة وغضب كل ذي ضمير، وتفجر الحزن للضحايا، وعلى صعيد آخر، فإن للحدث علاقة ما، ولو من بعيد، بالنقاط التي أثرتها في الحلقة الثانية من المقال ـ أي ثقافة العنف وعلاقتها بالسياسة والأيديولوجيا.
لقد توقفت فيما سبق لدى أزمة العقلية السياسية العراقية، ذات الجذور والسوابق، والمتصفة بالميل لإلغاء الآخر، وهوس ادعاء احتكار الحقيقة، مع أن الحقائق نسبية، وخصوصا في السياسة المتغيرة على الدوام. وقد يقال إن العقليات السياسية العربية متشابهة في هذه الخصائص، أو فلنقل إنها متقاربة. هذا صحيح، لحد كبير، ولكن دون أن ينفي ذلك خصوصية الحالة العراقية، التي تتميز بحدة وتشدد سياسيين أكبر ينعكسان حتى في السجالات والمناقشات السياسية، بل والثقافية أيضا.
إنه لا يمكن فهم الحالة العراقية هذه دون الرجوع لتاريخ العراق الطويل، ما بين حروب و غزوات أجنبية، واحتلال بعد احتلال، ومجاعات وفيضانات مدمرة للبشر والحرث، وما حل بالعراقيين من مآسي وسفك دماء على أيدي الغرباء، وعلى أيدي العراقيين أنفسهم. وتاريخنا الحديث يقدم شواهد أكثر من الكثيرة والصارخة بهذا الشأن: من quot;الجهادquot; مع العثمانيين المحتلين ضد quot; الكفار quot; الإنجليز، فمجزرة الآشوريين في بداية الثلاثينات، فالتمردات العشائرية المسلحة، المسيرة من هذا السياسي أو ذاك، فالانقلاب العسكري عام 1936، فانقلاب العسكر ورشيد عالي عام 1940 ndash; 1941 ودخولهم حرب مغامرات مع القوات البريطانية، ومذبحة الجالية اليهودية بكل ما رافقها من أبشع الانتهاكات. ولا ننسى سلسلة عمليات التمرد الكردية، وسلسلة الإعدامات في الأربعينات- قادة عسكريين، وقادة أكراد، وقادة شيوعيين، ومجازر في السجون. ومع 14 تموز، إبادة العائلة المالكة، التي كانت جريمة مروعة في منتهى الوحشية، وبلا أي مبرر، وأعمال السحل التي برع بها الشارع اليساري، وتمرد الشواف، وانتهاكات الموصل، والانتهاكات الشيوعية والكردستانية في كركوك، وسلسلة عمليات اغتيال اليساريين في بغداد والموصل، والحركة الكردية المسلحة ضد الثورة، وسلسلة عمليات الإعدام التي كانت أكثريتها غير ضرورية. وهل جاءك حديث مجازر 8 شباط، والانقلاب على البعث، والانقلاب على عبد الرحمن عارف، وجرائم عهد صدام، الذي كان شعاره quot; وطن تشيده الجماجم والدمquot;؛ وصولا إلى سنوات ما بعده، ولحد اليوم، حيث صار قتل العراقي سهلا، ودمه بخسا على أيدي المليشيات الحزبية، والقاعدة، وفلول النظام المنهار، وحتى القوات الحكومية نفسها؟
ترى ماذا نسرد، وماذا نعد من كرنفالات الموت والدم والعذاب وسادية القسوة التي اتسم بها تاريخنا الحديث، جراء السياسة والساسة، والأيديولوجيات المغلقة التي سادت، خصوصا بعد 14تموز، تلك الأيديولوجيات التي تتضايق من الخلاف والتنوع، وتستهين بالآخر، وتروم احتكار الساحة، ولا تؤمن بالحوار والتعايش الوطني؟! وماذا نقول عن ملاحقة أبناء الأقليات الدينية بعد سقوط نظام البعث الصدامي، والتضييق على المرأة، وضرب المتظاهرين المطالبين بالعدالة والإصلاح، والخصومات السياسية المندلعة التي لا تهدأ، وعن التعصب الديني والمذهبي والتقوقع الفئوي الذي لا يعترف بالخيمة الوطنية المشتركة؟؟ ويا ترى ما عدد الساسة العراقيين الذين يسترشدون بحكمة quot; من يؤمن بأنه لم يقترف خطا في حياته، فهذا يعني أنه لم يفعل شيئا حسنا في حياتهquot;؟ وكم سياسيا عراقيا تعلم من تجارب ماضينا وحاضرنا؟ كم منهم استعرض تجربته السياسية ومسيرته بروح إعادة النظر والاستعبار؟ أقرا هذه الأيام تصريحات ومقالات عن 14 تموز: هل كانت ثورة أم انقلابا، والنقاش هنا صحي والحوار مفتوح، ولكن حين يأتي دور مسئوليات الأحزاب والكتل السياسية والمرجعيات الدينية والشخصيات السياسية، أو تقييم كل من العهدين الملكي وعهد عبد الكريم قاسم، فهناك تبرز المعضلة والإشكالية، ويظهر علانية، ومن جديد، مرضنا السياسي والفكري المزمن، وأعني مرض المكابرة والتملص من الأخطاء وإلقاء المسؤوليات على الآخرين، ومنطق إما أبيض وإما أسود. وأقول بالمناسبة، وهو ما كتبته مرارا، إن العهد الملكي لم يكن جنة، ولكنه لم يكن جحيما، ولا يمكن تجاهل دور التقنوقراط عهد ذاك، وتقدم حقوق المرأة ونهضتها، ونهضة التعليم والفنون والثقافة؛ وبرغم تزييف الانتخابات، فإنها كانت أكثر تأثيرا إيجابيا من انتخابات اليوم، فقد كانت تبرز دوما نخبة، حتى من بين بعض الساسة التقليديين، ممن ينتقدون ويعارضون، وكانت تصريحاتهم البرلمانية الانتقادية تنشر في الصحف وتؤثر على الرأي الرأي العام، وكان القضاء مستقلا كقاعدة [ إلا في حالات قضايا سياسية محدودة]، ولم يكن رجال الدين يطالبون بدستور أحكام الشريعة، وتمت مشاريع عمرانية وتنموية هامة،ألخ- وهذا دون نسيان الجوانب المظلمة والسوداء لذلك العهد كمظالم الإقطاع، والإعدامات، وغيرها. كذلك عهد عبد الكريم قاسم، لم يكن كله دما ومؤامرات وتصفية حسابات، بل رافق ذلك تحقيق منجزات كبرى لصالح المرأة والمواطنين، وخصوصا الفقراء، ولصالح التعليم والتمنية والسيادة النفطية- ناهيكم عن شخص عبد الكريم الذي توقفنا قليلا لدى صفاته التي يحتاج لمثلها عراق اليوم.
إن العراق لا يستطيع الخروج من نفق أزمته العميقة ما لم ينتشر مبدأ المواطنة، وما لم تنشأ طبقة سياسية مؤمنة بهذا المبدأ، وبمبدأ التسامح لا الثأر والاجتثاث، وتشعر بالحاجة لكل الطاقات الخيرة؛ طبقة قادرة على تشخيص ودراسة كبريات المشاكل العراقية بروح علمية وبنظرة موضوعية وثاقبة، وقادرة على طرح الحلول وفق قاعدة ما هو ممكن وبلا مزايدات، واضعة هدفها الأول خدمة الشعب بلا تمييز وبلا تعصب، وخدمة العراق وطنا للجميع؛ ساسة يؤمنون حقا بالديمقراطية ويمارسونها في سلوكهم العملي، ويعترف الواحد منهم بخطأ يقترفه ويصححه بكل تواضع، ومن منطلق الخدمة العامة.
هذه أمنية قد تكون طوباوية، وقد لا تتحقق بعد عقد أو أكثر، ولكن التأكيد على ذلك مطلوب. وقبل أن يفكر السياسي أو رجل الدين أو المثقف بتغيير الآخرين، فعليه أولا أن يغير نفسه نحو الأفضل، وباستمرار، وكما يقول الإمام علي ndash; ع- فإن quot; من نصب نفسه للناس إماما، فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيرهquot;.
إن الذي يعمل يخطئ ويصيب، ولا يوجد على الأرض من هو معصوم. وأما المكابرة والغرور، فمقتل الساسة والحكام!