بينما تتواصل، وبإصرار، مظاهرات الشارع المصري، وينشد اهتمام العالم كله لما يجري هناك، وتتكاثر التصريحات والاتصالات الغربية حول أزمة مصر، فقد يكون مفيدا العودة إلى شيء من التاريخ القريب.

في 6 يناير 1979، شهدت جزيرة غوادلوب الفرنسية اجتماعا استثنائيا، دعا إليه الرئيس الأميركي عهد ذاك، جيمي كارتر، وحضره الرئيس الفرنسي ديستان والمستشار الألماني هيلموت كول. انعقد الاجتماع حين كانت المظاهرات الإيرانية الكبرى في أنحاء إيران قد تصاعدت وازداد زخمها، وكان الشاه في طهران. في الاجتماع تقرر نفض اليد عن الشاه والاتصال بخميني ومساعديه الموجودين في باريس- [ خميني وصل طهران منتصرا في الأول من فبراير 1979، أي بعد أكثر من ثلاثة أسابيع من الاجتماع المذكور] .

يروي لنا الكونت دي مارَنش، De Marenches -الرئيس الأسبق للمخابرات الخارجية الفرنسية [مثل السي. آي. إي]- في حواره مع الصحفية الفرنسية أوكرنت، [صدر في كتاب عام 1986]، شهادته عن تطور الأحداث التي كان من شهودها بحكم وظيفته عهد ذاك، وكان على اتصال شخصي مباشر بالشاه، ويزوره باستمرار.

يقول ديمارَنش إنه لا الشاه ولا الأميركيون كانوا يعرفون ما يغلي في كوامن المجتمع الإيراني والسخط المتراكم؛ وعندما كان ديمارنش يخبر الشاه بالتقارير الفرنسية المتوفرة عن تراكم السخط، وعن نشاط الملالي المعادي، كان الأول يجيبه:quot; أنت الوحيد الذي يخبرني بذلك.quot; وعندما كان كارتر قد قرر التخلص من الشاه ونظامه، فإن الشاه لم يكن ليصدق أن واشنطن ستتخلى عنه.

كان الشاه قد قام، مثل والده، بعملية تحديث للمجتمع، ونفذ إصلاحا زراعيا جزئيا أغضب الملالي من أصحاب الأراضي الواسعة؛ ولكن شرائح واسعة جدا من السكان ظلوا يعيشون في ظلمات القرون الوسطى، وهو ما لم يكن يفهمه الأميركيون، الذين كانوا يرون أن النموذج الإيراني هو في من يستقبلونهم من دبلوماسيين ومن مثقفين في طهران وأميركا، غير مدركين أن طهران لم تكن هي كل إيران. كان الشاه مغرورا، ويعاني من عقدة العظمة الشاهنشاهية. وفي رأي الشاهد الفرنسي، أنه كان أوتوقراطيا، أي يقرر هو كل شيء، ولكنه لم يكن ديكتاتورا دمويا؛ وفي ذروة المظاهرات، سأله ديمارَنش عما إذا كان سيستخدم الجيش لقمع الشارع فأجابه: quot; لن أضرب شعبيquot;؛ ولكن الشاه، مع ذلك، لم يلجم السافاك الذي كان يقترف جرائم بشعة ضد المعارضين، ويستخدم معهم وسائل التعذيب. وعندما عاد ديمارنش لباريس، والتقى بالرئيس الفرنسي، أخبره بموقف الشاه، وقال:quot; لقد انتهى الرجل.. إنه مثل لويس السادس عشرquot; - قاصدا قرار عدم استخدام الجيش.

أما كارتر، فقد أرسل الجنرال هوسر Hauser لطهران ليلتقي بالجنرالات الإيرانيين ويحذرهم من استعمال القوة، مهددا بقطع تصدير قطع الغيار والمعدات للجيش الإيراني. هذه الرواية الفرنسية تناقض شهادة الجنرال الأميركي- بعد سنوات طويلة - حين قال إن قادة الجيش الإيراني كانوا ينوون الانقلاب على الشاه، في حين أن المسئول الفرنسي يؤكد أن جنرالات إيران كانوا ينتظرون مجرد إشارة من الشاه للاصطدام بالشارع. فأي الروايتين صحيحة؟؟

الشهادة الفرنسية ترى نقاط ضعف الشاه ونظامه في البعد عن الشعب وانتهاكات السافاك والفساد وعقدة العظمة [ دركي الخليج، وملك الملوك]- فضلا عن مرضه العضال. وهي تنتقد كارتر بشدة وتحكم عليه بالسذاجة التاريخية لأنه توهم أن الثورة الإيرانية ستقيم الديمقراطية ونظام حقوق الإنسان في إيران. وكانت الولايات المتحدة قد بدأت، عبر سفرائها ومبعوثيها، بالاتصال بخميني وحاشيته وهو في باريس، وحيث كان يدلي بتصريحات يومية مطمئنة عن نواياه وأهدافه، مشيدا بالديمقراطية، ودون الإعلان عن مبدأ ولاية الفقيه. ونعرف أنه استغل مشاركة القوى العلمانية واليسارية واللبرالية في الثورة، ولكنه ما أن تسلم السلطة، حتى راح يجهز عليها واحدة بعد الأخرى، ومن بينها حركة شعب كردستان إيران حيث انقض على القرى ودمر بعضها. وقد تجاوز عدد من أعدموا في العام الأول وحده أضعاف من تم إعدامهم طوال عهد الشاه- فضلا عن أسلمة كل نواحي المجتمع والتدخل في أخص تفاصيل حياة المواطنة والمواطن، ناهيكم عن مساعي تصدير الثورة للمنطقة. ويحدثنا ديمارنش عن نزعة العنف والثأر، ومن الأمثلة -[ والعهدة عليه ولا أدرى مدى دقة المعلومة] - مطالبة خميني -حين كان في النجف - من السلطات العراقية بإعدام صبي تعارك مع صبي من عائلة خميني. ومن أوائل من تم إعدامهم الجنرال بقروان، الذي كان قد تدخل لدى الشاه لصالح خميني، فلم يزج في السجن، كبعض أقرانه، ولكنهم أمروه بمغادرة البلاد حتى استقر في النجف.

لم يستعمل الثوار في تلك الأيام وسائل الاتصال الحديثة، كالانترنيت والفيسك بوك، ولكن كان الدور لكاسيتات خطب خميني التحريضية من باريس، وكانت تهرب بالحقائب الدبلوماسية لألمانيا الشرقية ويقوم حزب توده الشيوعي هناك بإنتاج عشرات الآلاف من النسخ منها، ثم تهرب لإيران وتوزع. وكانت quot;مكافأةquot; توده هي القمع الوحشي والإعدامات. وجاء خميني ببني صدر رئيسا للجمهورية ضعيفا كواجهة، ثم سرعان ما خلعه، فهرب لفرنسا.

استخدم خميني، كسائر الأحزاب الإسلامية، مبدأ التقية، وهو أيضا ما يستخدمه الإخوان المسلمون حيثما نشطوا سياسيا، وفي مختلف البلدان؛ فهم يتظاهرون بقبول الديمقراطية- قاصدين الانتخابات وحدها- مع أن برنامجهم قائم على أن الإسلام هو الحل، أي أحكام الشريعة بكل ما تعنيه، والعمل من أجل قيام الدولة الدينية مستقبلا- أي مبدأ quot; التمسكن قبل التمكنquot;، كما يرد في المقال الممتاز الأخير للدكتور شاكر النابلسي quot; الإخوان: من مجلس الشعب إلى ميدان التحريرquot;. وقد عانينا، ونعاني، في العراق من تكتيكات ومناورات الأحزاب الدينية الحاكمة، التي شرعت منذ سنوات بتنفيذ خطوات أسلمة المجتمع والدولة تدريجيا، بما في ذلك فرض الحجاب وتحريم الموسيقى والفنون، وتحويل مناهج التعليم، والمزايدة بالمشاعر المذهبية [ الزيارات المليونية وتمويلها رسميا وحزبيا]. وقد وصفت في مقال لي quot;ديمقراطيةquot; هذه الأحزاب- والأحزاب الإسلامية كافة خارج العراق وبالمذهبين- ب quot;ديمقراطية الأقنعةquot;.

في هذه الأيام، هناك حماس دعائي كبير في منابر اليسار الأميركي والأوروبي لتسويق إخوان مصر، ووصفهم بالاعتدال، وما شابه. نجد مثلا الإعلامي الأميركي الهندي الأصل فريد زكريا، الذي راح يصول ويجول في هذه الدعاية، وهو معروف بشدة حماسه لثورة خميني. كذلك تفعل صحيفة الغارديان، والسياسي quot; الأخضرquot; في البرلمان الأوربي، كوهين بنديت، الذي ألقى خطبة طويلة عن quot;الديمقراطية والإسلامquot; في البرلمان الأوروبي- قاصدا التنظيمات الإسلامية في تونس ومصر وغيرهما، معتبرا تطورات تونس غير كافية ما لم يصل السلطة من كانوا منفيين- قاصدا على الأكثر زعماء النهضة. وقد رأينا اليسار الغربي في أكثر من مناسبة يتفقون مع الإسلاميين برغم تعارض التوجهات والمنطلقات والأهداف، وخصوصا في الوقوف معا ضد إسقاط صدام، وحتى بعد انكشاف المقابر الجماعية. وتستشهد هذه الدعاية في تزكية نوايا ومواقف الإخوان بعدم طغيان شعاراتهم على المظاهرات، ولكن هذا مجرد تكتيك ليس إلا. وقد كشفت بعض هذا مثلا هتافاتهم في مظاهرات الجمعة بالإسكندرية، وتصعيدهم بالمطالب- [ لاحظوا أيضا وجهة دعاية قناة الجزيرة الإسلامية أيضا!]

لقد نادى جورج دبليو بوش بمشروع الشرق أوسط الديمقراطي، الذي قوبل برفض عربي وبسلبية من الحزب الديمقراطي الأميركي. وكانت التجربة الأولى في العراق؛ ولكن الوضع آل لغير ما كان مطلوبا لأسباب سبق التوقف لديها عشرات المرات، وأهمها تخلف النخب السياسية، ولاسيما مناورات الأحزاب الإسلامية الحاكمة، وارتباطاتها بإيران، والتدخل الإقليمي، والإيراني أولا، وهجمة القاعدة بكل وحشية وتصميم- فضلا عن أن ما تركه نظام صدام من خراب في كل المجالات كان واسعا وشاملا. لقد وضعت إدارة بوش ثقلها مع تلك الأحزاب، متوهمة أنها ستبني العراق الديمقراطي، ناسية أن هؤلاء يتبعون التقية السياسية، وأن الإسلام السياسي لا يمكن أن يبني دولة مدنية، علمانية، عصرية، قائمة على حقوق الإنسان، والمثل الديمقراطية الحديثة. وعلى كل، فإن بوش كان محقا تماما في مبدئه وحيثياته، برغم كل التجني عليه، وبصرف النظر عن الأخطاء. وها قد صار شعار الديمقراطية الشرق -أوسطية شعار إدارة أوباما اليوم، وللتو، وبصيغة الأمر والنهي- أي منذ اندلاع انتفاضتي تونس ومصر. هذا ويذكر أن هناك قراءات وتفسيرات متباينة، في الغرب وعندنا، لمعنى الديمقراطية. ولا تزال النظرة الغربية هي اعتبار الانتخابات المعيار الحاسم والرئيس، إن لم يكن الأوحد، للديمقراطية بصرف النظر عن الظروف وتباين الأوضاع، ومستوى المجتمع، وتاريخ البلاد، وطبيعة القوى الفاعلة فيها. وهذا يصدق على القارة الأفريقية أيضا والعديد من دول العالم الثالث الأخرى؛ ففي أفريقيا مثلا أدت الانتخابات في بعض الحالات إلى تأجيج العنف بدلا من التهدئة والاستقرار. وضغط الغرب لتنظيم الانتخابات في غزة، والنتيجة نظام طالباني يحاصر حقوق المواطن وحرياته. وقد عنون الباحث الإيطالي quot; بيترو فيرونيسquot; مقالا نشرته النيويورك تايمس هكذا: quot; انتخابات في كل مكان، والديمقراطية في لا مكان.quot; [ سنعود لهذه النقاط في مقال لاحق]

يجري الحديث اليوم، وعن حق، عن انكسار جدار الخوف العربي في شوارع تونس وبالأخص في ميدان التحرير. ولاشك في أن للحدث العظيم تداعياته الثورية، حاضرا ومستقبلا. فتحية للشعبين الباسلين، ألف تحية. ولابد، مع ذلك، من ملاحظة أن سقوط جدار الخوف العربي لا يعني أوتوماتيكيا أن السير نحو الديمقراطية في منطقتنا صار معبدا وبنفس وتيرة ما جرى في شرق أوروبا. ولا يجوز أن نساوي الحالة بسقوط جدار برلين، لأن الدول الشرقية كانت، ولا تزال، مجاورة للدول الغربية الديمقراطية، التي ساعدتها على التطور إلى أمام، في حين أن منطقتنا مليئة بأخطار التطرف الإسلامي وتياراته وأنظمته، وهذه ستقاوم كل تطور حقيقي نحو الديمقراطية مقاومة عنيفة وبعناد- فضلا عن تباين مستوى تطور المجتمعات في المنطقتين، بما فيه المستوى التعليمي. على أن هذه الحقيقة لا ينبغي أن تثبط العزائم النضالية التي تبدو بخير، ولحد اليوم.

ميونيخ وغوادلوب: هل من تكرار ما للمواقف الغربية في ظروف جديدة؟ أم ماذا؟ لابد وأن تتضح الأمور قريبا. على أنه، ومهما كان الموقف الخارجي، أي الغربي بالتحديد، والأميركي أولا، فإن مصير المسيرة السياسية المصرية يجب أن يظل في أيدي مناضلي مصر من الشباب الواعي وحكمائها المجربين ليجدوا المخرج السليم، وبأسرع وقت، وهو المأمول والمنتظر. فتحية لشعب مصر ولحكمة أبنائه الواعين.