لم تبدأ المظاهرات التونسية تحت شعار الديمقراطية، بل اشتعلت بعد الانتحار المأساوي للشهيد محمد البو عزيزي، الذي فجر معه مشكلة بطالة الشباب- أي بدأت كانتفاضة اجتماعية. وكما ورد في مقالي السابق، فإن القمع الدموي للتظاهرات كان العامل الرئيسي في نزول شعار الديمقراطية للميدان مع شعارات مكافحة البطالة والفساد.

وهذه التجربة فريدة لأن الشعب بدأ والجيش حسم، خلافا للانقلابات العسكرية، ذات الطابع الوطني الشعبي منها، كثورة 14 تموز العراقية، أو ذات الطابع التسلطي والاستبدادي. ومن التبسيط، وأعيد هنا ما سبق لي قوله، تصور أن مثل هذه التجربة تستنسخ بمجرد انتحار مأساوي كانتحار بولعزيزي، أو أن عدوى تونس يمكن انتقالها بسهولة للبلدان العربية الأخرى ذات المشاكل الكبيرة. والبلدان العربية ذات أوضاع مختلفة ومتنوعة، اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا ومستوى دخل، عام وفردي، وإن كان ثمة مشترك وهو نسبة الشباب العالية، حيث تشكل الأعمار الأقل من 25 سنة حوالي 40 ndash; 45 بالمائة كمعدل عام.

لم تنشأ في البلدان العربية حتى اليوم تجربة ديمقراطية ناجحة، فما بين درجات من التكلس السياسي، المقترن عند بعضها بانفراجات نسبية وحريات لا بأس بها، وبين تطرف المعارضات المتشنجة - من يسارية وقومانية وإسلامية- ضاعت فرص سنحت في بعض هذه الدول لبناء تجربة ديمقراطية صحية- علما بأن الأنظمة الملكية، وفي أغلب الحالات، هي أكثر صمودا من غيرها. الانتفاضة التونسية بدأت عفوية، وكانت شبابية، أي دون تنظيم وتخطيط قيادات سياسية معينة، وإن حاول بعض الساسة والأحزاب اليوم ركوب الموجة وتزعم النصر لحساباتهم وأهدافهم.

إن التجربة العراقية غنية بالدروس. فقد انتصرت ثورة 14 تموز 1958 بمبادرة انقلاب الجيش، الذي كان له القول الفصل، ليتحول الانقلاب لثورة شعبية حقيقية. ولو عدنا للوراء، للأيام والأسابيع والشهور الأولى للثورة، لوجدنا أن ممارسات وشعارات ومواقف متشجنة، ومزايدات متطرفة، هي التي مهدت الطريق لتعثر مسار الثورة، وللانقضاض عليها، فيما بعد، وعلى زعيمها في 8 شباط 1963.

اليسار الماركسي، مثلا، راح يتصرف وكأنه هو صاحب الثورة والوصي عليها، وأسس فرقا للمقاومة الشعبية وquot;لجانا لصيانة الجمهوريةquot; موجهة ضد أعوان النظام الملكي. وقد بدرت من بعض تلك التشكيلات تجاوزات استغلت وجرى تهويلها، وكانت من بين أسباب الابتعاد بين قائد الثورة واليسار رغم أنه كان المؤيد الأكثر حماسا للثورة وقائدها، والذي قدم في تاريخه التضحيات الغالية من أجل الشعب والوطن. وأكثر من ذلك، رفعنا متسرعين، وبصخب في الشارع، شعار المشاركة في الحكم، وجرت تجاوزات مروعة في الموصل وكركوك دفعت قاسما للقطيعة مع اليسار، وهو ما استفاد منه أعداء الثورة. ومنذ الأيام الأولى، بادر البعثيون والناصريون إلى تفجير الصف الوطني برفع شعار الوحدة الاندماجية الفورية مع العربية المتحدة، وهو ما أدى إلى مصادمات دموية، وإلى تشجيع التدخل المصري في شؤون البلاد. ولو كانت القضية مجرد رفع شعار لهان الأمر، ولكنهم أرادوا فرضه فرضا بالقوة والعنف والتآمر.

ونزلت القوى الدينية المتطرفة للميدان مع صدور قانون الأحوال المدنية، فأصدرت المرجعية الشيعية فتاوى ضد عبد الكريم قاسم ولتكفير الشيوعيين وتحريم نسائهم عليهم، وتعاضد مع المرجعية شيوخ الدين السنة. أما الأطراف الكردستانية، فقد انزلقت إلى رفع السلاح ضد النظام الوطني، وتعاونت مع أعداء الجمهورية لسحق الثورة، ليصبح الشعب الكردي من ضحاياهم .لم يقم نظام الثورة على الانتخابات والبرلمان، وبدلا من العمل والضغط للسير معا نحو نظام برلماني ودستوري، مدني، علماني، أدت المزايدات وصراعات الزعامات والمنافسات إلى خلق مناخ مستمر من التوتر والعنف، وانتهت الأمور بقتل الثورة وحمامات الدم وسراديب التعذيب. لقد ضاعت علينا اكبر فرصة لتأسيس نموذج لنظام دستوري برلماني سليم؛ ومع أن عبد الكريم اقترف أخطاء لا تبرر، فإن المسئولية الأكبر والأولى تقع على التطرف السياسي والديني للآخرين، وهو الذي مهد لسرقة أحلام الشعب ولعهد من الدكتاتورية الفاشية الدموية. ففي خضم المزايدات والصراعات وفورة ميول وممارسات الاستئثار والإقصاء، تهمشت تيارات الاعتدال والمرونة والاتزان السياسية، وتوارت عقلية تحقيق ما هو ممكن في كل ظرف، والتحلي بالصبر والتدرج في الخطوات. حدث ما يقارب من هذا مع شعب السودان في انتفاضتيه لعام 1964 و1985، حيث تبددت الأحلام الشعبية أيضا. لقد تطرقت في المقال السابق لبعض التجارب العربية، وما يجمع بينها وما يفرق، وما كان سلبيا أو إيجابيا. ولابد هنا من أن نذكر أن أكثر الأنظمة العربية تعرضا اليوم للتزعزع والهزات الشعبية ليست ،مع الأسف، الأنظمة الشمولية، كالنظام السوري وإخوانه، لأن هذه الأنظمة، وكما فعل صدام، مستعدة للتضحية بمئات الآلاف إن اقتضى الأمر وتطلب ذلك بقاء الأنظمة. ولم يكن بن علي من هذا الطراز برغم فرديته الاستبدادية وقمعه البوليسي. إن الأنظمة المهددة اليوم هي، عموما، حليفة الغرب، وهي التي تقف في وجه الخطر الإسلامي، الإخواني وغيره، ولكنها، في الوقت نفسه، تعاني إما من التضييق على الحريات، بدرجات مختلفة، أو من الفساد، أو من مشاكل الفقر والبطالة، أو منها معا؛ وبعضها لا تطرح فيها مسألة الديمقراطية بقدر ما يشكل محور الاهتمام الحفاظ على سيادتها وبقائها كدولة [ اليمن أو لبنان]. وفي حالة مصر، ثمة معضلة التوريث -أي تكريس الرئاسة واحتكارها. إن التغيير في مصر مطلوب جدا، والحاجة له استثنائية، وقد آن أوانه، ولكن التغيير إلى أمام وليس إلى القرون الوسطى كما يريده الإخوان، الذين، إن حكموا، فسوف يتدخلون حتى في أبسط الحريات الشخصية، ويصادرون الحق في الفن والموسيقى والتعليم الحديث، ويزداد اضطهاد الأقباط أضعافا مضاعفة، وسيتعاملون مع المرأة كمجرد مخلوق ثانوي، كما فعل الطالبان، وكما في إيران والعراق والسودان- أي ستزداد أحوال مصر الداخلية سوءا، مع تعكير العلاقات الخارجية لصالح التحالف مع تيارات وقوى التطرف وأنظمته. ومعروف مدى تضامن الإخوان مع النظام الإيراني ومع حماس وحزب الله.

إننا نعرف أن دواعي الوقوف في وجه الإرهاب والتطرف الديني المسيس قد حملت معها إفراطا في القمع والانغلاق السياسي، وفي بعض الممارسات التي تنتهك حقوق الإنسان، وفي هذا المطب وقع بن علي. لقد طرح جورج بوش مشروع الديمقراطية الشرق ndash; أوسطية، وبدأ بالعراق. كانت حيثيات المشروع أن الدول الشمولية والدكتاتوريات الدموية تفرّخ التطرف والإرهاب وتنشرهما في العالم، وتتمرد على القانون الدولي، وتشكل خطرا على مصالح واشنطن وكل الغرب. ولكن تطبيق مشروعه في العراق، لم يؤت بثماره المرجوة، بسبب سوء التخطيط الأميركي لما بعد الحرب، ولكن، أولا وأساسا، بسبب تقصير النخب السياسي وصراعاتها، وميول الاحتكار والإقصاء، وتحول الدولة من نظام شمولي قوماني إلى دولة شبه ثيوقراطية، وشبه مجزئة، تقوم على دستور أحكام الشريعة، والمحاصصة الطائفية، وانتهينا إلى محاربة الفنون والثقافة وتشويه التعليم ومحنة المسيحيين والصابئة المندائيين. لقد صارت الهيمنة للأحزاب الدينية، وبالأحرى لإيران. وهكذا، برهنت القيادات العراقية، مرة أخرى، وفي ظرف مغاير لظرف الثورة، على تفريطها بأكبر فرصة للانتقال إلى دولة الحرية والعدالة والقانون، ولا أقول إلى ديمقراطية جيفرسون! وكان لتخريبات فلول صدام والقاعدة والمليشيات المدعومة إيرانيا والتدخل الإقليمي، والإيراني خاصة، دور كبير في الوصول لهذه الحالة.

وإذا كان مذهب بوش قد ووجه بالنقد في العالم العربي ومن جانب الحزب الديمقراطي الأميركي، فها هي هيلاري كلينتون تدعو حلفاء الولايات المتحدة في منطقتنا إلى الإصلاحات السياسية والاجتماعية وضمان حقوق الإنسان ومكافحة الفساد، وإلا فسوف تكون معرضة للخطر. مع الانتفاضة التونسية، يقوم على قدم وساق سوق المتاجرات العربية والمحلية والدولية بها، وتروج مزايدات بعض الأطراف التونسية التي ترفض الواقعية والاعتدال. ونحن نسأل مثلا: من سيدير الدولة التونسية لو جرى حل وتحريم الحزب الدستوري الحاكم، الذي يضم مئات الآلاف من الأعضاء المبثوثين في مؤسسات الدولة والحياة العامة والاقتصاد الوطني؟ نفهم أن تكون المطالبة بمحاسبة المقصرين والفاسدين وتطهير الحزب منهم، وإعادة النظر في التوجه وضرورة التجديد الجاد- كما يرى الأستاذ خالد شوكات؛ أما تحريم حزب بكامله، وقد نشأ في خضم حركة التحرر الوطني، وهو ليس بالحزب العنصري أو الفاشي أو الإسلامي المتطرف، فإنه، كما أرى، مطلب غير واقعي ومتشنج، ويكون كدعوات مطاردة السحرة في أوروبا القرون الوسطى أو مطاردة الزنادقة في البلدان الإسلامية في تلك العهود. ومن شأن هذه الدعوات خسران الكفاءات، وخطر تحويل البعض إلى أعداء، بل وخطر التصفيات الجسدية وطغيان غرائز الانتقام والابتزاز والترهيب، وانتهاك القانون والعدالة، وهو ما جرى في العراق بعد سقوط صدام، برغم أن الحزب الدستوري ليس ذا طبيعة وماض مشوهين كحزب البعث الصدامي. فلمصلحة من خلق فراغ الدولة وشلها؟ القضية لا تخص بضعة وزراء وحسب، بل عشرات الآلاف من الكوادر، الذين لا يمكن اتهامهم جميعا بالفساد أو عدم الكفاءة. وها إن المزايدة تنتقل دوليا، فقد قررت الأممية الاشتراكية إقصاء الحزب الدستوري من صفوفها- صح النوم!!! لماذا اليوم لو كان هذا الحزب غير مستحق للعضوية؟! والاشتراكيون الفرنسيون، الذين يقسون بالنقد على الحكومة لتأخرها في تأييد الانتفاضة، هم من زكوا في عهد ميتران وجوسبان بن علي ونظامه، والاشتراكي، المرشح للرئاسة الفرنسية تروسكان، مدير صندوق النقد الدولي، هو من أصدر عام 2008 شهادة لصالح تجربة تونس الاقتصادية.

أجل، إن كان هناك من ساهموا في الفساد أو القمع في الحزب الدستوري، فإن القانون هو الذي يفصل. وإذا كان الشعب لا يريد مشاركة أي طرف سياسي في الحكم، فإن الانتخابات القادمة هي التي يجب أن تقرر لا إرادة هذا الحزب أو ذاك أو أية مظاهرات في الشارع. فالشارع لا يجب أن يحل محل الدستور والقانون. فلماذا افتعال الصدام السياسي مع خطر الدخول في دوامات تعرقل قضية التمهيد للانتخابات، وتُنسي الشعب أهدافه الحقيقية التي قدم التضحيات الغالية لتحقيقها في الحياة الكريمة والحرية؟أما الكاتب البريطاني اليساري المتطرف والمهرج روبرت فيسك، فها هو ينشط ليدعو لمشاركة الإسلاميين في السلطة، ويكثر من تصريحاته وكتاباته هذه الأيام لتحريم الحزب الدستوري. وفيسك هذا وقف ضد حرب إسقاط صدام، وهو معروف بتزكيته للنظام السوري والإسلاميين وبدعايته ضد جميع حلفاء الغرب من الدول العربية. نشاطه المتزايد هذا يشجع تيارات اليسار التونسي المتطرف والتيار الإسلامي. لابد أيضا من ذكر الحقيقة التالية: إن الشارع العربي، مشرقا ومغربا، بما فيه معظم النخب المثقفة، وقف مع صدام دون مبالاة بمعاناة الشعب العراقي، وبلا ذكر للمسألة الديمقراطية، ذلك لأن الشارع العربي والكثيرين من المثقفين العرب [ لا جميعهم طبعا] مستعدون للوقوف مع أي حاكم مستبد إن اعتقدوا أنه يقف ضد الغرب وأميركا وإسرائيل. وهو ما ذكّرنا به الأستاذ حازم صاغية في أغسطس الماضي حين كتب في quot; الحياةquot;:

quot;هناك أكثر من دليل على أن شعوبنا مستعدة دائما للتسامح مع استبداد الحاكم المستبد حين يتخذ موقفا راديكاليا في مصارعة الغرب والولايات المتحدة وإسرائيل. في هذه الحال، تميل أكثريتنا إلى وضع مسألة الديمقراطية والاستبداد بين هلالين أو في الثلاجةquot;. وأضيف، حتى لو كان quot; الموقف الراديكاليquot; مجرد شعارات غوغائية حماسية. هذا أيضا ما نراه من حماسة الشارع العربي

لحزب الله ولحماس التي تفرض حصارا على الحريات الفردية والحقوق الشخصية- وخصوصا حقوق المرأة. إنها انتقائية نجدها أيضا في الحماس المفرط للصين، التي فيها نظام استبدادي يقف في مقدمة أنظمة الإعدامات في العالم، والذي يخنق حرية الصحافة والتعبير، أو في حماس الكثيرين من العرب لنظام خامنئي. ووصل الأمر لحد أن يرفض البرلمانيون العرب إدانة المقابر الجماعية عند اكتشافها، مما دعا الأستاذ عبد الرحمن الراشد إلى وصف ذلك الموقف بالموقف quot; المخزيquot;. الديمقراطية في بلداننا لا يمكن قيامها بمواجهة الغرب، ورفض العلمنة وحقوق المرأة، والنظام الديمقراطي المثالي مطلب لا يمكن تحقيقه بسرعة في بلداننا؛ فالديمقراطية ممارسة وثقافة وتقاليد ومؤسسات وتاريخ، وإنما الطموح الواقعي هو نظام يوفر الحد المناسب من فرص العمل والعدالة الاجتماعية وسيادة القانون والحقوق الأساسية للمواطن، فاصلا الدين عن السياسة وعن إدارة الدولة. وإذا كنا لا ننتظر من أنظمة كسوريا التعلم من التجربة التونسية، فلتكن درسا للدول quot; المعتدلةquot;، كالأردن ومصر ودول الخليج والجزائر والمغرب واليمن وأمثالها، أي مكافحة الفساد، وحسن توزيع الثروات، ومكافحة البطالة والفقر، وضمان حقوق المرأة والحريات العامة والشخصية، وسيادة القانون وضمان التداول السلمي للسلطة. ففي ذلك وحده يمكن ضمان الاستقرار الحقيقي القائم على الثقة بين الشعب والحكام.أما تونس الخضراء، فكل قلب حي هو مع شعبها، لكي يشق طريقه الصعب والفريد نحو دولة القانون والحريات والازدهار- بعيدا، [وأكرر ما كتبته في مقالي السابق]، عن نزعات الانتقام وعن التطرف اليساري وعن الغوغائية الإسلامية، التي تغازل الديمقراطية وهي تنوي اغتيالها إن تسلطت، كما حصل في إيران والعراق وغزة والسودان. وها هم الإسلاميون قد بدءوا فعلا بالنشاط العلني بعد أيام من التفرج المقصود، متقدمين مظاهرات تطالب بحل حزب التجمع الدستوري.

إن المخاوف من هؤلاء مشروعة تماما، فهم يتبعون مذهب التقية في العمل السياسي، أي إعلان غير ما يخفون.المأمول أن يوفق الشعب التونسي، مستندا لجيشه الباسل، في تحقيق أهداف العدالة والتقدم وتحسين أوضاع المواطنين، مع الحفاظ على مكاسب العلمنة ووضع المرأة ومستوى التعليم، وأن تنجح القوى السياسية المدركة والبصيرة في تجنيب البلاد صدام الأيديولوجيات والطموحات، ودخان التجاذب، وهو ما سيعرض البلد لمزيد من الخسائر المادية والاقتصادية، وللفوضى والفراغ السياسي والقيادي، وبالتالي، للمجهول. إن الحكومة المؤقتة قد اتخذت سلسلة إجراءات جيدة لصالح الانفتاح الواسع والتمهيد للانتخابات الحرة، في الطريق الطويل نحو الأهداف المبتغاة. وسيكون نجاح التجربة التونسية نجاحا لكل شعوب المنطقة. تونس هي بلدنا أيضا نحن العراقيين، ومن هذا المنطلق تأتي هذه الملاحظات القابلة لتبادل الرأي والحوار. والمجد لتونس الخضراء.