ما بين أيام وأيام رحلت عنا، وعن الفكر والإبداع، مجموعة من خيرة المثقفين العرب، ممن كان لكل منهم دوره وتأثيره، وكل منهم ترك وراءه فراغا مؤلما.
quot;رحلاتquot; بدأت بالمفكر الجريء الدكتور حامد أبي زيد، ثم المفكر الشجاع أحمد البغدادي، فالروائي الجزائري المبدع الطاهر وطار؛ والآن فجيعتنا بالدكتور الأديب والمفكر، المرحوم غازي القصيبي.
قبل رحيل القصيبي بأسابيع قليلة جدا، قرأت خبر quot;الإفراجquot; الرسمي عن مؤلفاته في السعودية، ولم أكن لأتصور حظرها وهو، عدا دوره الأدبي والفكري، كان وزيرا. فكيف يجري حظر كتبه مع أنه وزير؟!! تلكم مفارقة تدل، كما تدل ظواهر وحقائق أخرى، على قوة التيارات الدينية السلفية المتعصبة في المملكة، والتي ناصبت الفقيد منذ السبعينات عداء متواصلا، إن على أفكاره التجديدية أو على شعره، وهي نفس القوى التي وصمت أشعار نزار قباني الغزلية بالفسق والفجور. ومما يحسب لغازي القصيبي جرأته في الرد، وصموده أمام قوى التخلف والتزمت، ومواصلة عطائه الفكري والروائي والشعري. ومع أن بعض الخطوات الانفتاحية قد تمت في السعودية، فإن المعركة ستكون طويلة شاقة نظرا لرسوخ قوى وأفكار التطرف والتزمت الدينيين. وأذكر ما كتبه طارق الحميد، في العام الماضي، تعليقا على وجود عدد كبير من المعتقلين الإرهابيين السعوديين في العراق وغير العراق، ودعوته لبذل كفاح فكري مستمر، خصوصا في مجال التعليم والإعلام.
وغازي القصيبي جلب اهتمامي أيضا عندما كان مرشحا لمنصب المدير العام اليونسكو في عام!999، وكان هناك إجماع عربي رسمي على ترشيحه، ولكن ذلك لم يمنع الأكاديمي المصري، الدكتور إسماعيل سراج الدين من أن يدخل منافسا بترشيح نفسه مدعوما من دولة من أفريقيا السوداء لا من دولة عربية، وإن اشتغلت الدبلوماسية المصرية لصالحه في الكواليس! وكان هذا الترشيح الجديد بمثابة الشرخ في الجهد العربي المشترك.
لقد كنت أرى أن غازي القصيبي، كشخص ومؤهلات فكرية وإدارية، جدير بقيادة سكرتارية اليونسكو باقتدار، ولكنني لم أكن متفائلا من النجاح، لأن المجتمع الدولي كان ينظر إلى أبعد من أشخاص المرشحين، وأعني إلى أوضاع المرأة في السعودية والبلدان العربية، وعدم توقيع بعضها على الإعلان الدولي لحقوق الإنسان. وقد عبرتْ عن التقدير السلبي للوضع والمجتمعات العربية صحيفة الغارديان بتاريخ 7 أغسطس!999. فبعد إشادة الصحيفة بكل من القصيبي وسراج الدين، نقلت على لسان سفير غربي ما يلي:
quot; لا نريد أوروبيا آخر [ للمنصب]، ولكن تحرير المرأة، وحقوق الإنسان، وإلغاء الرق، وغيرها هي في مقدمة قائمة أوليات اليونسكو، وهذا ما لا ينطبق بالضرورة على الثقافة العربية.quot;
وقد تميزت حملة القصيبي الانتخابية بالموضوعية والنزاهة وعفة اللسان وسلامة الأساليب، والأخلاقية العالية، ولم يمس، في بياناته وتصريحاته، أية دولة من الدول ذات المرشحين، كما ترفع عن الرد على بعض المهاترات. وهكذا كشفت تلك المعركة الدولية، ورغم الخسارة لصالح مرشح اليابان، عن قوة شخصية غازي القصيبي ورصانته، بجنب مؤهلاته الأخرى.
إن المنطقة العربية بحاجة ماسة إلى مثقفين متنورين شجعان، لا يترددون عن قول الحق، وعن إدانة التخلف والتطرف والإرهاب المتستر بالدين، وعن الدفاع عن المرأة وحرية الرأي والمعتقد. ومن حسن الحظ أن لدينا فريقا من هؤلاء، ولكن المنطقة تحتاج للمزيد نظرا لقوة التيارات المحافظة والمعادية لقيم الديمقراطية والحداثة. وقد كان غازي القصيبي يشغل مكانا خاصا في هذه المعركة الفكرية، ومن هنا فداحة الخسارة. فمجدا لذكراه.