هناك اتفاق على أن حكومة سركوزي قد أصيبت بنكسة انتخابية وسياسية موجعة في الانتخابات الإقليمية منذ أيام.
ثمة تفسيرات متعددة عن الحدث، وهنا أتقدم ببعض الملاحظات- علما بأن بعضها قد يكون تكرر في مقالاتي السابقة عن فرنسا:
1 ndash; أعتقد أن السبب الأول والرئيسي للنكسة المذكورة هو الأوضاع الاقتصادية والمعيشية والمالية المتردية، ونسبة البطالة، وذلك منذ اندلاع الأزمة في الولايات المتحدة، ثم في العالم. ونعلم أن هذه القضية ndash; أي اندلاع الأزمة خلال الانتخابات الأميركية ndash; هي التي كانت وراء نجاح أوباما في الانتخابات وفشل ماكين، وإن استمرار أعبائها الثقيلة، وعدم نجاحه في تحقيق ما وعد به في هذا المجال، هو وراء تردي شعبية أوباما في الشهور الأخيرة. وفي تصريحات لجون ماكين عما هي أولويات الأولويات الأميركية، فقد كان جوابه، quot; وظائف.. وظائف.. ثم وظائف..] ونسبة البطالة في فرنسا هي الأخرى مرتفعة.
صحيح أن خطوات هامة اتخذت للخروج من النفق، وكان سركوزي - هنا- في طليعة رؤساء دول الاتحاد الأوروبي، و أبدى جرأة يُعترف له بها؛ ولكن الأزمة كانت من العمق بحيث لا يمكن أن يتحقق تقدم هام في المعالجة خلال شهور أو عام وحتى عامين. إذن فالسبب الأول ndash; كما أرى- لا يعود لفشل سياسات وإجراءات الحكومة الفرنسية في هذا الميدان، بقد ما هو سبب موضوعي ودولي؛
2 ndash; تناولنا مرارا ما يشخصه عدد من المفكرين وعلماء الاقتصاد والاجتماع الفرنسيون من الروح المحافظة في المجتمع الفرنسي، ولاسيما في قوى quot;اليسار quot; والحركة النقابية. إن قوى المعارضة السياسية تقف ضد أي مشروع أو قانون يصدر عن الحكومة ndash; أي معارضة من أجل المعارضة- بلا ليونة ومرونة سياسيتين تكتيكيتين، تقولان لما هو جيد إنه جيد مع معارضة النهج والسياسة العامين. أما النقابات الفرنسية، فإنها تتشبث بالامتيازات الكبيرة لشرائح واسعة من العمال، وخصوصا عمال النقل العام. وتجلى ذلك خاصة في موضوع جعل سنة التقاعد 60 عاما بدل 57، ونعلم أن سن التقاعد في الدول الغربية الأخرى قد يتجاوز الستين إلى الخامسة والستين. كما أن كل إضراب عمالي، أو طلابي، يكتسب حالا طابعا سياسيا، وسرعان ما يندلع إضراب عام، تختلط فيه المطالب والشعارات، وهي ظاهرة فرنسية بامتياز- أعني تسييس الإضرابات، وهوس الإضراب العام. وسبق لنا أن تناولنا في عدة حلقات كتاب الباحث الفرنسي [ جاك مارسي] عن الحرب الأهلية. وقد شخّص ما يعتبره رفض الإصلاح والتغيير- فاليمين راض بما هو كائن، وأما اليسار والنقابات، فإنهم الأشد مقاومة للتجديد والتغيير تحت شعارات quot;مقاومة العولمة واللبراليةquot;. وقد ضرب ميتران مثالا في ذلك، فتبعوه، فرغم حديثه المتكرر عن التغيير، فقد ظل المجتمع في مكانه. وتحدث الكاتب عن quot;الشيوخquot; من العمال وموظفي المؤسسات العامة [ من مواليد 1925 و1955 ]، الذين جمعوا امتيازات ضخمة وحصانة كبرى، ومقابلهم شباب تكثر بينه البطالة، فيما الخوف من المستقبل صار ظاهرة عامة، وازدادت الظاهرة قوة مع اندلاع الأزمة المالية - الاقتصادية العامة؛
3 ndash; إن سركوزي يتحمل قسطه من المسئولية. فأولا: هناك مزاجه الحاد، الذي لا ينسجم مع مركزه. وثانيا: تراكم مشاريع الإصلاحات، واحدا فوق الآخر، وبدون حملة توضيحية كافية. إن سركوزي لم يفلح في تشخيص ترتيب الأولويات، فخلط الأهم العاجل بما يمكن تأجيله أو حتى صرف النظر عنه، وذلك في مجتمع ينفر أصلا من التغيير، فأصيب بquot; تخمةquot; إصلاحات. كما لم تفلح الحكومة في إدارة النقاش عن quot;الهوية الوطنيةquot;، وهو نقاش عارضه اليسار لأسباب غير مقنعة، و استغله المتطرفون الإسلاميون واليسار لوصف الحملة بمعاداة الإسلام والمسلمين. وأكيد أن الفرنسيين المسلمين صوتوا بالأكثرية ضد مرشحي الحزب الحاكم، كما هناك عامل آخر لتصويت الغالبية من أصول الهجرة تصويتَ الضد، وهو سياسة الحكومة في ضبط الهجرة غير الشرعية. لقد كان الأفضل لو أن النقاش العام جرى تحت شعار quot;المواطنة الجمهوريةquot;، فهو شعار واضح وبسيط،، وصعب تشويه مؤداه.
هناك أيضا قضية زواج سركوزي وإشاعات اليوم عن طلاق، وهي مجرد إشاعات ولكنها تثير غبارا ما، مع أن المجتمع الفرنسي لا يأبه كثيرا لأمثال هذه الحالات.
وهناك رضا سركوزي عن ملاحقة خصمه دوفيلفان - رئيس الوزراء السابق- أمام القضاء بتهمة محاولة تشويه سمعة سركوزي حين كان في منصبه، وهي تهمة لم تأتِ من فراغ، ولكن كان على الرئيس الفرنسي أن يترفع عن إبداء الحماس لإحالة خصمه للقضاء، وأن يعلن أن لا قضية موجودة بالنسبة له شخصيا.
4 ndash; لقد بادر سركوزي حال تبؤ مركز الرئاسة للانفتاح على شخصيات كانت في اليسار والوسط، ومنهم وزير الخارجية. وقد ترك هذا الانفتاح الجريء مرارة وامتعاضا داخل العديد من برلمانيي وشخصيات حزبه. وبالتعديل الوزاري الجزئي الأخير، حاول سركوزي طمأنة الديجوليين. هذه مسألة مفتوحة للنقاش: أي هل كانت خطوات الرئيس الفرنسي حكيمة أم متسرعة أحيانا، خصوصا بإيكال مركز وزارة الخارجية لاشتراكي معروف؟
أخيرا، لا يمكن الاتفاق مع المعارضة بأن أكثرية الفرنسيين صاروا ضد سياسات الحكومة والرئيس، ذلك لأن أكثر من نصف الفرنسيين لم يساهموا في التصويت، والفائزون نجحوا بأغلبية النصف الآخر. وعدم المشاركة الكثيفة هو بحد ذاته يدل على حالة مرارة وشعور بالإحباط، لا من ساسة الحكومة وحدهم، بل من الطبقة السياسية برمتها. أم هو اليأس من تغير الأحوال؟