العنوان مستعار من عنوان الرسالة المفتوحة التي وجهها الكاتب والشاعر حميد الخاقاني إلى آية الله السيستاني، وكان ذلك في منتصف 2005، خلال حكومة الدكتور الجعفرى، وما حل بالعراق من انتشار الطائفية والاحتراب الطائفي والفوضى الدامية. الصحيفة التي كانت أول من نشر الرسالة قدمتها بالكلمات التالية : quot;في هذه الرسالة المفتوحة إلى آية الله السيد علي السيتاني يتناول الشاعر حميد الخاقاني موضوعات وظواهر تشغلنا وتقلق الكثيرين، ويبدي مواقفه وآراءه بشأنها، وهي مواقف وآراء قد يتفق معها البعض، ويختلف الآخر. ولكن، بمعزل عن الاختلاف أو الاتفاق، يبدو النقاش حول هذه الموضوعات وتلك الظواهر نافعا، ما دمنا نتلمس السبيل لعراق ديمقراطي حقا، تتعدد فيه الأفكار والآراء والاجتهادات، وهو ما حدا بنا لنشر هذه الرسالة إثارة للنقاش الفكري حول ما ورد فيها.quot; وكان النقاش والتعبير عن الآراء في الموضوع قد بدءا في أعقاب سقوط النظام الصدامي، وكنت من بين من تناولوا الموضوع مع كل حدث جديد في تلك الفترة وما بعدها، ولحد يومنا.
أذكر مثلا تقييمي الإيجابي العالي للسيد السيتاني حين دعا في الأسابيع الأولى لحقن الدم وإعادة مساجد سنية كانت قد أخذت منهم. وكان لتلك المواقف تأثيرها الطيب في التهدئة مؤقتا. وفي أواسط عام 2003 بالذات دعت المرجعية الدينية الشيعية إلى الانتخابات البرلمانية حالا، مدعومة بالأحزاب والشخصيات السياسية الشيعية وبمظاهرات صاخبة. لقد كنت من بين عارضوا تلك الدعوة لسببين: الأول عدم جواز تدخل جهة دينية، ومهما سما مقامها، في العمل السياسي، والثاني لأن الظروف لم تكن مهيأة لأية انتخابات حرة وواعية. فالشعب كان قد خرج للتو من الخراب البشري والثقافي والفكري والاجتماعي الموروث عن صدام، والأمن لم يكن مستتبا، ولا كان هناك قانون انتخابي، فضلا عن أن شعبنا لم يكن قد مارس عملية انتخابية حرة من قبل. لم أكن المعارض الوحيد لانتخابات مبكرة، فقد كتب فريق كبير من المثقفين الوطنيين بالاتجاه نفسه. كما أعرب ساسة علمانيون وديمقراطيون عن الموقف نفسه. ومن حسن الحظ أن بريمر لم يستجب للدعوة رغم الصخب والتهديدات.
وفي عام 2004 أشعل مقتدى الصدر فتنه في كربلاء ثم فتنة دموية أخرى في النجف، واحتل المسجد العلوي المقدس وحوله لساحة قتال. وقد شجبت المرجعية تلك الفتنة شجبا قاطعا، ورد الناطقون باسمها بحزم ووضوح على السيد حسن نصر الله الذي انتقد الحوزة الدينية في النجف لعدم مساندة الصدر. لقد حييت تلك المواقف في مقالي بإيلاف بتاريخ 25 أغسطس 2004 وقلت:
ط كان موقف آية الله السيد علي السيستاني من فتنة الصدر في النجف يتميز بالعقلانية والحرص الصادق على مصالح شيعة العراق والبلد. فقد أدان وجود المسلحين داخل الحرم العلوي، ودعا المسلحين، الذين اعتدوا على قدسية المكان وعلى القانون وأمن سكان النجف، للخروج بلا سلاح.quot; ولكنني استغربت دعوته للعراقيين للزحف على المدينة ووقف القتال قبل خروج المسلحين بلا سلاح. وكان ما كان من تطويق الجماهير وخروج الإرهابيين الصدريين مع كامل سلاحهم وهم يهتفون بصرخات النصر. وقد اضطر الدكتور علاوي، رئيس الوزراء عهدئذ، للتوقيع على هدنة سميتها، وسماها كتاب آخرون، بالهدنة المفخفخة- وهو ما حث فعلا من بعد.
ثم جاءت عملية الانتخابات البرلمانية الأولى في يناير 2005، فإذا باسم المرجعية يوضع على عنوان لائحة انتخابية بعينها، هي لائحة quot;الإتلاف العراقي الموحدquot; الطائفي. ومع أن المرجع الأعلى لم يدع صراحة لتبني تلك القائمة، لكن فريقا من علماء حوزة النجف فسروا دعوته للمشاركة ومن أجل ضمان quot;حضور قوي للذين يؤتمنون على ثوابتهم ويحرصون على مصالحهم العليا في مجلس النواب القادم. ولهذا الغرض لابد من تجنب تشتيت الأصوات وتعريضا إلى الضياع.quot;- أقول، فسر فريق من علماء الحوزة رسالة السيد السيستاني بأنه دعوة صريحة لتأييد للقائمة المذكور، فكتبوا ختام بيانهم: quot; لقد دعت فتوى المرجع الأعلى المختومة بوضوح كاف إلى انتخاب قائمة الإتلاف العراقي الموحد [ رقم 555 ] دون لبس أو إيهام ........quot;وquot; يمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين العالمينquot;] وراجت في تلك الأيام فتاوى من خطباء جوامع وحسينيات بأن من لا ينتخب تلك القائمة تكون زوجته محرمة عليه!
ومع تشكيل حكومة إبراهيم الجعفري، والأحداث المأساوي التالية، أرسل الأستاذ حميد الخاقاني رسالة العتاب والتنبيه للمرجع الشيعي الأعلى، وقد بدأها كالتالي:
quot;لقد نقل عنك، أيها السيد الجليل، بأنك قد طلبت من معاونيك عدم ترشيح أنفسهم، أو تأييد أي مرشح في الانتخابات القادمة. وهو أمر يشير، إن صح، إلى أنك لم تعد راضيا عمن منحتهم بركتك ورضاك قبل شهور، ومهدت لهم السبيل إلى ما هم عليه الآن، وإلى ما نحن فيه معهم. كما أنه يؤكد لنا حقيقة غالبا ما يحلو لنا أن نغفلها، ألا وهي أن المرء لا يمكنه، مهما أوتي من سطوة روحية أو دنيوية، أن يظل ممسكا، دوما، بزمام أمر بدأه، ورغب له أن يمضي في السبيل الذي ظنه خيرا للبلاد والعباد. ولعل هذا يبدو أشد صعوبة في أحوال معقدة كتلك التي تشهدها بلادنا منذ حين، وكذلك حين يلقي المرء رهانه على أناس يتحدثون جميعا بلسان الدين والآخرة، إلا أن أكثرهم طالب سلطان، وصاحب دنيا في حقيقته. ولذا فالنأي بالمرجعية ومقامها عما يطمح إليه هؤلاء السياسيون، تعمّموا أم لم يتعمموا، حلقوا لحاهم أو أسبلوها، ادعوا الانتساب لآل البيت [ ع. ] أم لم يّدعوا، إنما هو خير للدين، وللعراق والعراقيين، وللشيعة والتشيع أساسا، وهو، قبل هذا وذاك، خير للمرجعية وتاريخها ومستقبلها. فالقائمة التي باركتها ، من قبل، لم تسهم، كما كان ينبغي لها، وينتظر منها، في تقديم حلول ناجعة وحكيمة، تكون بمثابة مفاتيح خلاص من المأزق الذي تتخبط فيه البلاد وأهلها، بل نراها أصبحت، في سياساتها وممارساتها وخطابها السياسي والديني، جزءً من المعضلة التي تطبق مخالبها وأنيابها على العراق وناسه....quot;
نعم، فهم من كلام المرجعية تصحيح لموقف التأييد والانحياز لفئات معينة من ساسة العراق وأحزابه، ولكن ما وقع بعد ذلك، ولحد اليوم، هو التالي:
ما انفك المسئولون، كبارا وصغارا، يترامون على باب المرجعية لتبرير هذا الموقف السياسي أو هذا الإجراء السياسي أو ذاك، باسم أخذ quot;النصيحةquot; أو quot;بمباركةquot;. وآخر ذلك لقاء السيد المالكي بالسيد علي السيستاني قبل أسابيع، ليخرج قائلا إن المساعي مستمرة، وبمباركة المرجعية، للاتفاق بين قائمتي القانون والإتلاف الوطني الموحد. أو ليس هذا الموضوع سياسيا صرفا؟!!
إن كل هذه المواقف والممارسات هي زج للمرجعية في كل تفاصيل العمل السياسي دون أن نسمع باسمها اعتراضا على هذا النهج، الذي يذكّرنا بولاية الفقيه. وهذا الوضع جعل بعض كتابنا الوطنيين يصفون هؤلاء الساسة الفاشلين ب quot; أولاد المرجعيةquot;!
لقد قلنا مرارا- وكم أكد على ذلك أيضا كتاب عرب وعراقيون متنورون - إن زج الدين في السياسة كارثة على كل منهما، وإن عالم الدين حين يتدخل في السياسة ستلحقه لا محالة خطاياها وتبعاتها، إذ سيعتبر شريكا في مسئولية ما يقع. وقد استشهدنا في عدة مقالات بتجربة حجة الإسلام السيد محمد عبد الحسين آل كاشف الغطاء في أواسط الثلاثينات، حين تدخل في خضم الصراعات السياسية بين الحكام، متخذا جانب ياسين الهاشمي ضد علي جودة الأيوبي. والنتيجة؟ انشقاق عشائر الفرات الأوسط الشيعية، وتصارعها، وورطة الشيخ الجليل في وسط المعمعة. فترك السياسة، وطلقها، وكان، لولاها، قد يحتل موقع المرجع الأعلى.
أما أن يتدخل عالم الدين في معضلة فقهية؛ أما أن يدعو للمحبة والتسامح؛ أما أن يشجب شتم هذا الصحابي أو هذا؛ أما هذا وما يدخل فيه، فهو من صميم واجبات ورسالة علماء الدين ومرجعياته
.