مغزى فوز يوكوفا:
يمكن تفهم المرارة التي يشعر بها الأستاذ فاروق حسني، وحكومة مصر، ووسائل إعلامها، لنتيجة انتخابات اليونسكو، التي انفضت للتو. ولكن ذلك ليس كارثة قومية، بل كانت النتيجة منافسة بين الكفاءات، وحصيلة اتفاقات دولية حول منصب دولي، ولمتكن صفقات على حساب قضية شعب وأمة، ناهيكم عن أن تكون قضية تمس الإسلام في الصميم.
من جهة أخرى، لابد من الفرح والاعتزاز لأن التي ستشغل المنصب امرأة فاضلة، ذات خبرة دبلوماسية عالية، وروح مشبعة بالتسامح والحرص على حوار الثقافات والحضارات. إن وصول أول امرأة إلى رأس منظمة دولية حكومية كبرى، حدث تاريخي حقا، وهو يكتب في سجل المرأة على نطاق العالم- هذه المرأة التي تتعرض في معظم بلدان العالم لأنواع من التضييق والتمييز وسحق الحقوق. إن انتخابها صفعة رادعة للأنظمة الثيوقراطية، والشمولية، كإيران والسودان، ولكل دول وتنظيمات التطرف الإسلامي، شيعية أو سنية، ولكل التقاليد والعادات البالية في التعامل مع المرأة لحد استساغة قتلها كشربة قدح ماء، أو تجويز خطبة الرضيعة، أو قطع الطعام عن الزوجة إذا رفضت نكاح الزوج لعارض ما، -هذا القانون الذي وافق عليه كرازي ترضية للأقلية الشيعية في أفغانستان - أو كحالة لبنىحسين السودانية، علما بأن السودان كانت من أوائل الموقعين على ترشيح حسني.
قراءة لتحليلات وتعليقات عربية ومصرية:
خلال الحملة، وأثناء دورات الاقتراع، نشرت الصحف المصرية والعربية عشرات التعليقات والمقالات عما دعتها، وتدعوها، quot;حملة اليهودية العالميةquot;، أو quot;حرب الشمال على الجنوبquot;، أو quot;الشقاق بين الغرب والعالم الإسلاميquot;. وقد ساهم وزير الخارجية المصرية بدوره في إثارة قصة quot;الشقاق بين الشمال والجنوبquot;، وبين quot;الغرب والعالم الإسلاميquot;. وتوجه محور الحملة الإعلامية والدبلوماسية المصرية كما لو أن عدم تأييد ترشيح حسني عداء لدولة مصر نفسها. ومن حسن الحظ أن وزير الخارجية استدرك الأمر الآن فور إعلان النتيجة.
فلنقرأ هذه التحليلات بنظرة موضوعية:
1 ndash; صحيح أن مثقفين يهودا فرنسيين أثاروا ضجة كبيرة في فرنسا ضد ترشيح الأستاذ حسنين بسبب تصريحه المعروف. ولكن بعض هؤلاء هم ممن ينتقدون سياسة إسرائيل، والأهم، أن الضجة حول ذلك التصريح لم تقتصر على يهود فرنسيين، بل ساهم فيها مثقفون ووسائل إعلام غربية متعددة المشارب والتوجهات، وأكثرها من منتقدي إسرائيل، كجريدة لبراسيون اليسارية، وذلك من منطلق حرية النشر والتعبير، لأن مجرد عبارة quot;حرق كتبquot; تعيد إليهم ذكريات أليمة قاسية. صحيح أن فاروق حسني استدرك، ولكن العبارة أحدثت دويها. لا ندري إلى متى يظل العرب والمسلمون أسرى نظريات quot;التآمر الصهيوني ndash; الإمبرياليquot;، بدلا من الكشف عن عيوبهم ومسئولياتهم هم قبل الآخرين!
2 ndash; إن فاروق حسني مثقف وفنان معترف به، وله مزاياه وكفاءاته وخبرته، ولكنه رجل إشكالي داخل مصر نفسها، وقبل أن تثار عليه الضجة خارج مصر. مثقفون وساسة مصريون، حتى من داخل الحزب الحاكم، لم يرتاحوا لترشيحه، ولكل أسبابه. ومن الأسباب تناقضات مواقفه، ما بين إجازة كتب عاداها متزمتون إسلاميون، ونقد صارم للحجاب، وما بين تمكين المراجع الدينية من التسلل لفرض رقابتها على الكتب والأفلام. ومع كل مزايا وفضائل الأستاذ فاروق حسني، الذي نكن له كل احترام، فإن إجاباته على أسئلة أعضاء المجلس التنفيذي جاءت مخيبة للآمال، خصوصا لو قورنت بإجابات بوكوفا وبقية المرشحات والمرشحين الرئيسيين. والسؤال: لماذا أصر الرئيس المصري على ترشيحه، فيما كان يمكن ترشيح مصري آخر من ذوي التجارب الغزيرة في العملين الدبلوماسي والدولي، مع ثقافة عالية، وتجربة إدارية؟ ففي مصر كفاءات كبيرة تتناسب مع منصب كمنصب مدير عام اليونسكو. ثم لماذا ضغط على دول عربية أخرى لسحب مرشحيها، وبينهم أصحاب كفاءات عالية، وتجارب زاخرة في عمل اليونسكو نفسها؟ ألم يكن الأفضل دخولهم جميعا في المنافسة لعل احدهم يفوز؟
3 ndash; يقولون إن المجتمع الدولي، قاصدين دول الشمال، والغرب خاصة، ضد تعيين عربي لمنصب دولي رفيع. وهذه مغالطة وتحريف. فهل نسوا أن بطرس بطرس غالي كان يشغل منصبا دوليا أهم بكثير من منصب اليونسكو؟ وأن البرادعي كان لحد أمس يشغل منصب مدير عام الوكالة الدولية للطاقة الذرية؟؟ أما القول بأنه quot;قد آن الأوان ليشغل مسلم منصبا دوليا رفيعاquot;، فهو تناس لحقيقة أن أحمد مختار أمبو، السنغالي المسلم، شغل منصب مدير عام اليونسكو لمدة 12 عاما بالتمام، [ ما بين 1974 و1987 ]. ونضيف، أن الدول العربية في اليونسكو لا تشكل مجموعة انتخابية مستقلة، بل إنها مندمجة مع الدول الإفريقية في مجموعة انتخابية تدعى المجموعة الخامسة، وقد رفض معظم الدول العربية تأسيس مجموعة انتخابية عربية مستقلة بحجة quot;التضامن العربي ndash; الأفريقيquot;!! فأمبو إذنن كان على نحو ما يمثل الدول العربية أيضا.
4 ndash; إن اتهام أمريكا ولندن بالتواطؤ ضد حسني لكونه عربيا، محض زيف. ومن معلوماتنا أن الجانب الأميركي في اليونسكو اتصل أكثر من مرة بالدول العربية لإبلاغها بأن واشنطن ليست ضد مرشح عربي أو مصري، ولكن لها تحفظا على شخص بعينه. ومن جهة أخرى، كما أن لمصر والدول العربية حق إجراء الاتصالات الدبلوماسية لإنجاح مرشحها، فهو حق أيضا للدول والمجموعات الأخرى . إنها ممارسة انتخابية ديمقراطية، لا يجب تفسيرها ببعد آخر، أي يجب الابتعاد عن النظرة الازدواجية.
5 ndash; أما قصة شمال وجنوب، فلا يجب نسيان أن كوفي عنان وبطرس بطرس غالي كانا في أعلى المناصب الدولية قاطبة، وأن البرادعي، وأمبو، ومن قبله المكسيكي توريس بوديت،[ كان مدير عام اليونسكو من عام 1948 وإلى 1952]، وآخرين غيرهم، هم من دول الجنوب. وبالارتباط بنفس النقطة، فنحن لا نستطيع حسبان بلغاريا دولة شمالية، أي دولة صناعية متقدمة، فهي دولة أفقر من نصف الدول العربية؛ ثم إن بلغاريا تنتمي للمجموعة الانتخابية الثانية، التي تضم الدول الشرقية مع روسيا، ولم يسبق لأي مرشح منها شغل المنصب، هذا إذا تحدثنا عن مبدأ التناوب،وهو على كل حال مبدأ لا نجد له نصا في ميثاق اليونسكو.
6 ndash; طوال مراقبتي ومتابعتي عن كثب لعمل اليونسكو والمنظمات الدولية الكبيرة الأخرى، توصلت إلى أن المبدأ الجوهري في التعيين للمناصب الدولية يجب أن يكون الكفاءة العالية والخبرة والموضوعية والنزاهة التامة، والحياد، وذلك بصرف النظر عن الدول والمجموعات والصفقات، ولكن هذا هو غير عملي مع الأسف، فحتى الهواء الذي نتنفسه صار مسيسا.
أخيرا، إذ نعرب عن كل الاحترام للأستاذ فاروق حسني وعن أحر التمنيات له، فإننا نود توجيه تهنئة منبعثة من الصميم والأعماق للسيدة إيرينا يوكوفا، التي تنضم لنساء علميات أخريات من رموز انتصارات المرأة وتصاعد دورها في مختلف مجالات الحياة الدولية. فمجدا للمرأة!
التعليقات