لا شك في أن جميع أخيار العراق والعالم العربي والعالم يتمنون لمصر الانتفاضة مخرجا يلبي طموح الشباب المضحي، ويحفظ استقرار مصر ودورها الإقليمي والدولي، وأن تؤتي التضحيات الغالية ثمارها لترتاح أرواح الشهداء.
ولاشك أيضا في أن أهل مصر هم وحدهم القادرون على إيجاد الحلول الناجعة للأزمة الراهنة، ولا ينبغي لكائن من كان من خارج مصر أن يسهم في تعقيد الأمور.

لقد برهن شباب مصر، ومن قبلهم شباب تونس، على أن العالم العربي لم يعد راكدا، وأن quot;الجمهولكياتquot; الوراثية قد ولى عهدها، وأن الأمل في التغيير يتغلب على يأس العقود وخيبتها.وما نتمناه هو أن ينتقل شعب مصر إلى عهد الحرية والعدالة وسيادة القانون، بأقل الخسائر والهزات، وأن يتحول إلى نقطة إشعاع لشعوب المنطقة.لقد شاهدت بغضب عارم عصابات الخيول والبعران يوم الأربعاء، والتي يظهر من المعلومات أن أوساطا أو شخصيات من داخل الحزب الحاكم قد زج بها لميدان التحرير لتمعن في الشباب المسالم عنفا وتجريحا وقتلا. وكان أول المتضررين مبارك نفسه، الذي كان لخطابه صدى إيجابي لدى فريق من المعارضة الحزبية سارع للإعلان عن القبول بالحوار مع عمر سليمان؛ ولكن عدوان الأربعاء لعب دور التخريب. ولننتظر مدى تنفيذ رئيس الوزراء لوعده بالتحقيق ومعاقبة المسئولين عن تلك الجرائم. إلا أنه كانت للحدث نتيجة أخرى تجلت في اعتصام الجمعة ومظاهرات الإسكندرية، ونعني بروز الإخوان لصدورهم ورفعهم لسقف المطالب في مزايدة مع شباب 25 يناير ولغرض المزيد من توتير الأجواء. وقبل جرائم الأربعاء، وقعتعمليات حرق مراكز الحزب الوطني والهجوم على السجون وإطلاق سراح السجناء، ومنهم كوادر الإخوان وحماسيون وسجناء من حزب الله متهمون بالإرهاب. وقد وصل منهم من وصل لغزة، عبر الأنفاق، ومنهم من وصل بيروت. فكيف تم ذلك يا ترى؟ لا يعقل هذه المرة أن نلقي المسئولية على طرف في السلطة. فأي طرف إذن له تلك الإمكانيات وتلك المصلحة في إخراج أولئك المسجونين وإيصالهم بسلام وبلا عقبات إلى غزة وبيروت؟
ترى عن ماذا ستسفر نتائج التحقيق؟ وأود هنا أيضا الإشارة إلى الحملة الإعلامية الواسعة، الأميركية والبريطانية، للتهوين من خطر التطرف الإسلامي في مصر، وعرض الإخوان المسلمين كقوة لا تسعى للسلطة، مع أننا نعلم أن شعار الجماعة كان، ولا يزال، quot; الإسلام هو الحلquot;، وهو مبدأ نقيض الديمقراطية. كما نعرف الممارسات العنفية للحركة منذ نشأتها، وما اقترفت من عمليات اغتيال، وما نظمت من مليشيات. وفي التعقيب على الإعلان بأن الإخوان لا يريدون ترشيح أحدهم للرئاسة، يذكّرنا معارض مصري بتجربة بني صدر وخميني؛ فالأخير جاء به رئيسا ضعيفا، ثم ضربه. ولا أدري هل كان السياسي المصري يقصد حلف البرادعي والإخوان، أم يقصد غير ذلك!!

في أيام الانتفاضات والثورات تبرز ظاهرة المتسلقين والمزايدين، الذين يزيدون في تعقيد الأوضاع ويخلطون الأوراق. والمأمول أن تفلح جهود رجالات الساسة الوطنيين المصريين والشباب المنتفض في قطع الطريق على هؤلاء، ومواصلة السعي للتوصل للحلول العملية والسلمية الممكنة، والضامنة لتحقيق آمال شباب مصر وشعبها في الانتهاء من الأزمة وما تنتجه من خسائر كبرى، والانتقال لبناء الحكم الديمقراطي المدني وتحقيق العدالة الاجتماعية ومكافحة الفقر والفساد.إن الأخبار تتحدث عن جهود لجان quot;حكماءquot; ومشاريع حلول، كلها مصرية، فلننتظر ما سوف يتوصل إليه المصريون أنفسهم وبأنفسهم، ولنأمل أن يوافق الرئيس المصري على مقترح نقل صلاحياته لنائبه، [ أو فلنقل الجزء الأهم منها الخاص بقيادة المرحلة الانتقالية] وسيسجل له ذلك في التاريخ، وهو ما يشرفه وليس العكس. نعم، فلتترك القوى السياسية والشبابية المصرية لتجد الحلول المناسبة بعيدا عن نزعات الوصاية والإملاء الخارجية. وقد أحسنت صحيفة quot; لو فيجاروquot; الفرنسية بنقد المواقف الغربية، والأميركية بالذات، في مقال تحت عنوان quot;الفخ المصريquot;. ومفاد الفكرة أنه من واجب أميركا وأوروبا الدعوة إلى الإصلاحات في مصر والمنطقة وأهمية نشر الديمقراطية، وشجب ملاحقة الصحفيين؛ ولكن ليس صحيحا أن تخاطب مصر بلغة الإملاء والأمر والنهي، كما يفعل أوباما وبقية المسئولين الأميركيين: quot;التغيير حالا، حالا، الآن، الأن.. افعلوا كذا وكذا .. اخرج اخرج..quot; ألخ.

هذه لغة من يخاطب جمهورية موز أو مستعمرة، وهي لغة غريبة على الدبلوماسية الأميركية في مخاطبة الحلفاء. وكما تقول الصحيفة، فإن هذه اللغة الإملائية لها نتائج عكسية في مصر، ليس فقط على الحكومة ومبارك، وإنما على الشارع نفسه وبين القوى السياسية، وذلك أولا لأن الموقف الأميركي يبدو كما لو أنه هو صانع القرار وليس الشعب المصري، وثانيا لأن هذه اللغة تثير المشاعر القومية المعادية للغرب. فهناك فرق بين التأكيد على المبدأ وتحية نضال شباب مصر، وبين الدخول في تفاصيل عملية التغيير والتهديد الضمني بقطع المساعدة المالية. وقد حاولت بعض التصريحات الأميركية الجديدة معالجة الخطأ، ولكن ما وقع قد وقع. وسمعنا من معارضين وطنيين مصريين رأيا مشابها لرأي الصحيفة. ومن ذلك ما قاله السياسي والباحث المعروف الأستاذ وحيد عبد المجيد صباح 5 منه لقناة quot;العربيةquot;، حيث يرى أن التدخل الأميركي بهذه الطريقة السافرة يعقد الأمور، خصوصا وأن هناك جهات في ميدان التحرير تعادي أميركا أصلا. وفي اليوم نفسه يكتب الأستاذ عبد الرحمن الراشد بالاتجاه نفسه، قائلا إن أميركا بموقفها هذا تستفز جماعات كثيرة داخل مصر، وquot;تصيب المنطقة كلها بالقلق، وتشجع إيران على التدخلquot;. مرة أخرى، ليس الخطأ في حث حكام مصر والمنطقة على الانفتاح ومكافحة الفساد ونشر الديمقراطية، وهناك أساليب دبلوماسية كثيرة لفعل ذلك، ولحد الضغط الودي. هذا موقف ضروري وواجب ما دامت الدول المعنية حليفة للغرب ومعادية للتطرف الإسلامي والإرهاب. وهو ما يذكرنا بدعوة جورج بوش لنشر الديمقراطية في الشرق الأوسط، والتي سخر منها بعض الديمقراطيين الأميركيين في حينه، وإن على هؤلاء الحكام أن يعوا أن الرأي العام الدولي يتابع ما يجري عندهم، وأن أوضاع المنطقة، سلبا أو إيجابا، تمس الأوضاع الدولية ومصالح الدول الكبرى. هذا شيء، ومواقف الإملاء [ اخرج الآن] والدخول في التفاصيل، وكل يوم وساعة، شيء آخر. حقا إن موقف أوباما بهذا النَفَس وهذه النبرة بدا غريبا، فقد صمت تماما أيام انتفاضة شباب إيران عام 2009، وقيل في حينه إنه لا يريد أن يعطي حجة لنظام الفقيه لاتهام أميركا بتدبير المظاهرات، وما يعنيه من إعطائه ذرائع للتنكيل. إن المرة الوحيدة التي أعلن فيها تعاطفه الصريح مع نضال الشعب الإيراني كان في رسالة تليت نيابة عنه بعد عام من الانتفاضة الإيرانية، وذلك عندما عقد في مجلس النواب اجتماع مكرس لتحية ذكرى تلك الانتفاضة بمبادرة منظمة أميركية غير حكومية. فقد وجه أوباما رسالة حيا فيها quot; شجاعة الشعب الإيراني.quot; وقد انتقد جون ماكين موقف صمت أوباما لعام 2009. ويقول المعارض الإيراني عباس ميلاني quot; إن الجدول الزمني للمجتمع المدني الإيراني وجدول أوباما ليسا متزامنينquot; [ تصريح للفيجارو في 21-13 حزيران 2010 ]. أما تفسير أحد المحللين الفرنسيين للحمية الخاصة التي راحت إدارة أوباما تتحدث بها كل يوم مرات عن مصر، فهو أن أوباما quot; يدشن حملته الانتخابية للولاية الثانية في القاهرةquot;!!
أما آخر خبر نسمعه فهو دخول خامنئي على الخط المصري! فهو يبشر بثورة مصرية إسلامية هي امتداد للثورة الخمينية!! فيا سيد خامنئي، انظر لبلادك، ولما تلحقونه بالشباب والمعارضة الشعبية من تنكيل وحشي، ولحد أن نظام مبارك يعتبر ملاكا رقيقا بالنسبة لنظامكم الشمولي الدموي، الذي لا يكتفي باستعباد الشعب الإيراني، وإنما يتدخل أيضا، وبفظاظة، في شؤون جيرانه والمنطقة، من لبنان[ الذي ابتلعتموه مع سوريا] والعراق والخليج وأفغانستان، وإلى مصر والصومال ومالي وغينيا؛ وفي كل يوم تكتشف سفينة سلاح إيرانية في ميناء أفريقي. إن خطاب خامنئي لا يستطيع ستر مأساة الشعب الإيراني تحت كابوس النظام الثيوقراطي الشمولي، الذي يسحق الحريات ويصادر أبسط الحقوق الشخصية، ولا يستطيع أن يخفي أن شباب إيران يتململ، منتظرا فرصته للانقضاض.
إن انتفاضة الشعب المصري صناعة مصرية بحتة، والمساعي المصرية الخيرة هي الكفيلة بالتوصل للمخرج الآمن نحو الأفق الفسيح. وألف تحية لانتفاضة 25 يناير.
.