quot; في مصر اليوم يتقرر مصير العالم العربيquot;: كان هذا عنوان مقالي في 30 يناير المنصرم، وهو عنوان مأخوذ من افتتاحية فرنسية. وها نحن وقد سقط عهد الحكم الفردي وانفتحت أبواب التغيير- أي حدث quot; الهدمquot;، وحل موعد الانتقال للشروع بالبنيان.
لا يمكن لأي مواطن واع في الدول العربية، بل ولأي إنسان واع في العالم كله، إلا أن يهنئ شعب مصر وجيشه وقواه السياسية المناضلة بهذا النصر العظيم، وإلا أن يهنئ نفسه أيضا؛ فالنصر المصري نصر لكل شعوب المنطقة ولقضية التقدم والديمقراطية في العالم. وإن المسار الذي ستشقه مصر سيؤثر مباشرة على تطورات الأوضاع في المنطقة، وهو مسار نأمل أن يكون متفقا مع مطامح شباب مصر ومصالح الحرية والأمن والاستقرار في العالم العربي. كما لاشك في أن الشعب المصري، وشبابه خاصة، سيتجنب منزلقات بعض التجارب السياسية المرة في المنطقة، ومن ذلك منزلق الاجتثاث ونزعات الانتقام التي رافقت التجربة العراقية.

صحيح أن مصر مبارك لم تكن من جمهوريات الرعب التي يحكمها طغاة دمويون لا يطيقون حتى نكتة تشير لهم، ويغضبون من مجرد رسم كاريكاتوري برئ يتوهمون كونه يلمح لهم، فيرمون الرسام في السجن أو يقتل. ولكن حكم مبارك تحول مع الزمن لحكم فردي أوتوقراطي، متكلس ومنغلق، ومزيف للانتخابات بفظاظة وعلنا، وبعيد عن هموم الجماهير الغفيرة- لاسيما الشباب. ولم تهبط بركات النهضة الاقتصادية الكبيرة التي تحققت، [ نمو اقتصدي بنسبة 7 إلى 6 بالمائة] على الملايين الواسعة، ممن دخلهم لا يتجاوز الدولارين شهريا، فيما عم الفساد وانتفخت جيوب وأرصدة الفاسدين.

ربما هناك احتمالات نشوء مصاعب وإشكاليات وحساسيات ومزايدات البعض في المرحلة الانتقالية، وقد يواجه المجلس العسكري تيارات ونزعات التعجيز والتصعيد في المطالب الآنية بلغة quot; يجب فوراquot;؛ كما أن طريق الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية الكبرى، فيما بعد، لن يكون قصيرا ولا سهلا. فالمشاكل كبيرة ومزمنة والإمكانات غير كافية. ووفقا لإحصاءات يقدمها الأستاذ عادل الطريفي في quot; الشرق الأوسطquot;، فإن 700000 مصري يدخلون سنويا سوق العمل، ويتخرج سنويا من الجامعات 417000 خريج، منهم 18 بالمائة فقط من الفروع التقنية أو الطبية. ودواوين الدولة والمؤسسات العامة متضخمة بالموظفين بأكثر من الحاجة. والدولة تقوم بالإنفاق على مشاريع دعم الخدمات والحاجات الأساسية للسكان بأكثر من قدرة اقتصادها- ناهيكم عن مشكلة الانفجار السكاني الذي يجعل من الصعوبة بمكان توفير السكن والخدمات الصحية للجميع. وفي أخر الإحصاءات فإن ديون مصر تبلغ تريليون ومائة مليون جنيه، وبلغت خسائر أيام الانتفاضة بحدود 34 بليون دولار.

إن هذه المشكلات، مع المشكلات السياسية، هي تحديات كبرى. إنها تحديات بناء المستقبل الأفضل، وهو مما لا يسمح بحلم التحقيق الفوري لكل شيء، كما قد يحلم البعض من المتعجلين. ومهما يكن، فإن شعب مصر وجيشه المجرب وقواه السياسية الحصيفة هم أهل لتحمل هذه المهمات الجسام في ظروف صعبة، وفي منطقة غير آمنة، تنشط فيها تيارات وقوى التخريب والعنف والتطرف. وإن عودة الهدوء والاستقرار شرط مهم لكي يستطيع المجلس العسكري تبصر الإقليمية والدولية. طريقه والسير بحكمة وحزم نحو تحقيق ما عليه من واجبات، بالتعاون مع شباب الثورة والساسة المجربين. ومما يبشر أن المجلس العسكري يؤكد بقوة على الانتقال السلمي وعلى هدف الحكم المدني وكذلك على التمسك بالاتفاقات

وهناك معضلة طبيعة ودور الإخوان المسلمين. وكنا قد أبدينا اجتهادا بهذا الشأن في مقالات سابقة. ولا بأس من العودة مجددا للموضوع على ضوء التقارير الصحفية المتزايدة عن الموقف الأميركي منه. فوفقا لهذه التقارير الأميركية يظهر أن صلات جرت منذ مدة مع قيادات من الإخوان [ رغم نفي غيبس] ، وإن الإدارة الأميركية بصدد تقديم quot;حوافزquot; لأطراف في المعارضة المصرية السابقة، من بينهم الإخوان. الموقف الأميركي، وهو موقف اليسار الأميركي والعديد من quot; المنظرينquot; الأميركيين والغربيين والعرب، هو أنه يجب quot; استيعابquot; هذه القوة السياسية التي لها حضورها في الشارع وهي قوة quot;معتدلةquot; وتقبل بالديمقراطية. ويقول المنظر فريد زكريا في مقال في تايم [ 14 فبراير 2011 ] إن على الولايات المتحدة quot;عدم المبالغة في الرد على سياسات مصرية محافظة والإحجام عن وصفها بالتطرفquot;، فدعوة النساء للبس الحجاب quot; يختلف عن الدعوة إلى ارتداء الأحزمة الناسفةquot;- هكذا!

هذه التنظيرات والمواقف تتناسى أن الإسلام السياسي، بفروعه ومذاهبه، يتبنى شعار أن الإسلام دين ودولة، وأن المبادئ التي يدعو لها هي أحكام الشريعة. وتتناسى أن الإخوان وكل فروع الإسلام السياسي تهدف لقيام الدولة الدينية، ولا تعترف بحقوق المرأة وفقا للمعايير والقيم الإنسانية الحديثة، ولا تؤمن بالحرية الدينية، وتبشر بعقوبة الردة على مسلم يغير دينه. هذه العقائد والأهداف تجمع كل فصائل الإسلام السياسي، وإن كانت تختلف في التكتيك السياسي للتوصل للهدف البعيد المشترك. وإن مشاركة الإخوان في الانتخابات ليست دليل إيمان بالديمقراطية، بل يتخذونها كإحدى وسائل وأدوات تعزيز النفوذ في الطريق نحو الهدف البعيد- دولة الخلافة. أما الحجاب، فهو عندهم مجرد رمز سياسي مغطى دينيا للهيمنة على عقول الشارع والمجتمع. وأن تلبس المرأة حجابا بإرادتها، وبلا ضغط وتهديد وقانون، فهذا من ضمن حريتها، وأما فرض الحجاب بالضغط وبالتشريعات، كما في إيران والسودان وأفغانستان [وفي مدارس العراق ودوائر الدولة ]، فهذا هو المرفوض. ونقول إن الإسلام السياسي quot; المعتدلquot; والإسلام السياسي quot; المتطرفquot; من طبيعة واحدة، وإن لابسي الأحزمة الناسفة إنما قد غسلت أدمغتهم بدعايات الإسلام السياسي المتطرف وفتاوى فقهاء الإرهاب.

صحيح أن إخوان مصر اليوم يبدون شيئا من الاعتدال في طموحهم، كالقول بعدم الترشيح للرئاسة أو عدم الرغبة في أكثرية برلمانية، ولكن هذا هو من ضمن خططهم التكتيكية ومبدأ التقية، وربما يريدون رئيسا ضعيفا يكون مجرد واجهة ليسيروه كما يريدون. ونعلم أنهم هم الحزب الأقوى تنظيما والأوسع مشايعين، ولهم تاريخ طويل في أفكار التطرف وممارسة العنف. وعلى كل، فالقبول بالمشاركة الانتخابية صار أمرا واقعا اليوم، ولكن النقطة الأساسية التي أؤكد عليها هي وجوب عدم الخلط بين هذه المشاركة السياسية وبين وهم تحول الإخوان لقوة ديمقراطية. ولو كانت إدارة أوباما[P1] على هذا الوهم، فإنها على ضلال كضلال أوهامها عن كسب إيران بالحوار غير المشروط على مدى أكثر من عامين، أو وهم كسب طالبان بالحوار، والادعاء بأنهم ليسوا حلفاء القاعدة، أو وهم عزل سوريا عن إيران ومدارة النظام السوريالقمعي الذي يجثم على صدور المواطنين. وقد تخبطت إدارة أوباما مع الأزمة المصرية في مواقف متناقضة؛ ثم بادر الرئيس الأميركي نفسه لتبني الانتفاضة بحماس يلفت النظر وكأنها من صنعه، وكأنه قائدها في ميدان التحرير، وراح يتكلم مع الحكومة المصرية quot;الحليفةquot; بلهجة الآمر الناهي وبإشهار العصا الغليظة. وبعد ما بدا نسيانا لأطروحة الديمقراطية، التي كان يؤكد عليها جورج بوش- سواء في زيارة أوباما للقاهرة أو عند استقبال مبارك في أميركا، ومن قبل، عند المظاهرات الإيرانية، أو في التعامل مع سوريا- نجده قد راح مستعيرا لبعض أفكار بوش مع الحدث المصري كورقة انتخابية داخلية. والنتيجة أن أميركا لم تربح في المنطقة والعالم من هذه السياسات المتعثرة والمتناقضة، خصوصا حين نتذكر الصمت عن هيمنة إيران وسوريا على لبنان، والاتجاه نحو رفع العقوبات عن البشير وما يعنيه من نسيان انتهاكات دارفور. ربما ربحت أصواتا انتخابية في الداخل، وتصفيق اليسار الغربي وبعض المثقفين العرب، ولكنها أربكت بقية الدول العربية الحليفة لها في المنطقة، والتي توصف بدول الاعتدال، والمهددة بقوى التطرف. وهذا يتطلب، أكثر من أي وقت أخر، من حكام هذه الدول الإسراع بالقيام بإصلاحات عميقة، اقتصادية واجتماعية وسياسية، واتخاذ العبر من زلزالي تونس ومصر قبل فوات الأوان ودخول المنطقة في المجهول.

مرة أخرى: إن الديمقراطية لا يبنيها غير المؤمنين بها، وإن قيام النظام الديمقراطي يتطلب أولا ثقافة ديمقراطية وتقاليد وممارسات ديمقراطية. ومن هنا أيضا تعقيدات إقامة الديمقراطية بمفهومها العصري في البلدان العربية والإسلامية، ومنها مصر. ونعرف كم هو صعب على الملايين من الأميين، وخصوصا مع نفوذ المتطرفين الدينيين في الشارع العربي والإسلامي، اختيار الحكام الأجدر بخدمة مصالحهم أو انتخاب ممثليهم في البرلمان. ومرة أخرى، أراني مخالفا لمن يقارنون بين زلزالي تونس ومصر وسقوط جدار الخوف العربي وبين سقوط جدار برلين، وللأسباب الواردة في مقالي السابق- أي أن الدول الشرقية كانت، ولا تزال، مجاورة لدول ديمقراطية كانت، ولا تزال، حريصة على تطورها نحو الديمقراطية، وقدمت لها، وتقدم، كل العون ومساعدة في هذا السبيل، في حين أن منطقتنا معرضة من كل جانب لغبار وعواصف التطرف الديني وتياراته وأحزابه، ولمخاطر التوسعية الإيرانية وتحدي تحالف سوريا وإيران وتحريكهما لأدواتهما للتخريب. ونعرف مدى تربص إيران بمصر وأعمال عناصر حماس وحزب الله داخل مصر نفسها.

نعم، طريق مصر شائك وطويل، والثقة بالشعب والجيش المصريين كبيرة، وكل منا يشعر بالامتنان لما قدمه شعبا تونس ومصر لبقية شعوب المنطقة من نماذج رائعة في التحدي وقوة الإرادة والتضحية من أجل الحرية والعدالة الاجتماعية والتقدم. ولن ننسى الشهيد بلعزيزي الذي أشعلت مأساته الشعلة الأولى في الشارع العربي. كما أن الأسلوب السلمي الذي انتصرت به ثورة شباب مصر يعد هو لوحده مأثرة تاريخية ومدرسة سياسية نضالية لبقية هذه الشعوب. فمجدا لثورة مصر ولشهداء الثورة.