لقد توصلت منذ بداية الثمانينات إلى أن طريق الإصلاحات الديمقراطية المتدرجة والسلمية هو الطريق السليم للوصول إلى النظام الديمقراطي الذي يضمن العدالة والمساواة والتنمية. وكتبت مرارا أنه لولا أن نوري السعيد أغلق، منذ عام 1955، كل منافذ الإصلاح المتدرج، لكان طريق التغيير بالإصلاح أفضل للعراق وشعبه، وأكثر أمانا، وأقل أخطارا. فالثورات الكاسحة، سلمية أو بالقوة، تجر وراءها ردود فعل عنيفة، وتفتح الطريق أمام شتى الاحتمالات، التي قد يكون بعضها كارثيا، وقد يؤدي لإعادة إنتاج الاستبداد. وهكذا لم يتمتع العراق إلا لفترة قصيرة بالانقلاب العسكري، في 14 تموز، والذي تحول إلى ثورة شعبية. صحيح أن تلك الفترة القصيرة شهدت إنجازات ضخمة، ولكنها أيضا شهدت أكثر فترات العراق، [حتى ذلك الوقت]، احترابا سياسيا، وعنفا، ومؤامرات انتهت كلها لقتل الثورة، واغتيال زعيمها، الذي كان هو، بحد ذاته، أثمن ما قدمته الثورة لنا.

وأمام ما حدث، ويحدث، في المنطقة من انتفاضات، وهيجان، وثوران دائم، أراني متفقا مع الرأي القائل إن غالبية الملكيات العربية- [ أقول غالبية لا كلها]- هي المرشحة أكثر من الجمهوريات العربية للانتقال نحو الديمقراطية. طبعا هناك استثناءات، وهناك اختلاف في الظروف والأوضاع- داخلية وإقليمية- وتباين في السياسات. كما أن هذا الاجتهاد لا يعني مفاضلة بين النظامين الجمهوري والملكي بشكل مطلق؛ فكل شيء يعتمد على طبيعة النظام والحكومات، وعلى السياسات والمبادئ التي تقوم عليها الدول. ولو نظرنا لأوروبا الغربية، لوجدنا أعرق الديمقراطيات ملكية، وأن كل القوى السياسية ملتفة حول الملكية بوصفها ضمان الاستقرار والاستمرارية، لكن لكونها ملكيات دستورية، [خلافا لما عندنا]، أي إن العائلة المالكة لا تحكم، وقد تكون حكما بين القوى السياسية المتصارعة، كما في بلجيكا اليوم، حيث لا توجد غير حكومة تصريف أعمال منذ عام.

إن أكثر الجمهوريات العربية القائمة [ لا جميعها] فاشلة، وإن أكثر الملكيات العربية هي أقل استبدادية، وأكثر رفقا بشعوبها، رغم وجود العيوب الكبرى، وخصوصا فيما يخص ملكيات العائلة الواحدة، كما في الخليج.

فلننظر اليوم إلى مآل quot; الثورة quot; المصرية المستمرة، والتي تواصل الصخب الشارعي، ودعوات القصاص، واللغة الشعبوية للحكام؛ ثم لننظر إلى الإصلاح الدستوري الديمقراطي الذي أقدم عليه عاهل المغرب. صحيح، أن إصلاحه الدستوري الديمقراطي الجريء جاء تحت مطالبات شعبية قوية ومستمرة، وخصوصا من الشباب، وكذلك بأخذ الدروس من الانتفاضات القائمة في العالم العربي. وصحيح أن هذا الإصلاح غير كاف، وأنه لابد من وثبات إصلاحية جديدة ، وخصوصا فيما يخص مشكلة الفقر، والفساد، ووضع المرأة؛ ولكن الخطوة المتخذة تشكل وثبة في الاتجاه الصحيح، لاسيما في تأكيد الدستور الجديد على الحداثة، وحقوق الإنسان والطابع الكوني لهذه الحقوق، وتقليص صلاحيات الملك لصالح البرلمان الذي غدا المصدر الأساسي للتشريع، والاعتراف باللغة الأمازيغية للبربر، وبكل مكونات المجتمع المغربي وخصائصها، وغير ذلك من تجديد أحسن في شرحها لفيف من الكتاب العرب.

ومما يحمد للنظام المغربي فتح وسائل الإعلام لمعارضي الخطوة، ممن يعتبرونها ناقصة، وهم، كما نقرأ، الحزب الإسلامي الأكثر تشددا، وبعض المجموعات السياسية اليسارية، ولكن معظم القوى السياسية الأخرى، قد رحبت، ووافقت- علما بأن وجود المعارضة العلنية واحترام كلمتها دليل حيوية العملية.

نعم، هذه الخطوة غير كافية، ولكنها خطوة يمكن، ويجب، أن تفتح الطريق تدريجيا نحو خطوات أخرى في الطريق الطويل نحو ملكية دستورية حقة.

لقد تناولنا في مقالات سابقة كتاب المفكر الفرنسي جاك مارسيّ quot; الاستخدام الرشيد للحرب الأهلية في فرنساquot;، وتوقفنا لدى مقولته بأن الإصلاح أصعب، وأكثر تعقيدا، من الثورة. ومع أن الكاتب يتحدث عن المجتمع الفرنسي، فإن هذه المقولة تبدو منطبقة على أوضاعنا أيضا.

إن الإصلاحات الجريئة والمطلوبة تثير نوعين من ردود الأفعال السلبية: الأول لدى الفئات المتضررة من الإصلاح، وهي في بلداننا من داخل الطبقة الحاكمة، والثاني لدى فئات المعارضة ممن تسير وفق عقلية كل شيء مرة واحدة، مع أن السياسة هي فن الممكن في كل مرحلة. وفي رأينا أن العقلية السياسية العربية متكلسة بين ثنائية الاستبداد والطغيان الدموي والتشبث بالسلطة لدى الحكام، وبين نزعة الرفض الشامل عند غالبية المعارضة، والتي قد تنفجر عارمة في الشارع تحت شعار إما كل شيء دفعة واحدة وإلا فهي الثورة الدائمة- ثورة الاجتثاث والقصاص الذي لا ينتهي، واحتلال الشارع بوصفه هو صاحب الشرعية، وهو القضاء، وهو الدولة. وإن ما بين ما يجري في مصر وما يجري في المغرب يقدم لنا مثالا بارزا على ذلك.

لقد ضحى الشباب المصري اللبرالي الحداثي، وفجر الانتفاضة المجيدة من أجل الحرية والكرامة، ولكن قلة التجربة، وعدم وضوح الرؤية، وقلة الإمكانات سمحت للإخوان المسلمين باحتكار الساحة مع حلفائهم السلفيين، وذلك بالتناغم مع المجلس العسكري، وبمباركة أميركية كما يظهر اليوم. ومهما حاول هذا أو ذاك أن ينشر أسطورة إمكان تحول الإخوان نحو الديمقراطية فإن كل وقائع الماضي والحاضر تدحض هذا الوهم. وليست بعيدة عنا تصريحات زعيم إخواني بارز قبل أسابيع حين تحدث عن إقامة الحد بعدquot;امتلاك الأرضquot;. وتبعه القيادي الإخواني البارز صبحي صالح بالقول إن من يهاجم الإخوان يهاجم الإسلام باعتبار الإخوان تجسيدا لدين الله. وقال ذلك الأخ إن الإخواني يجب أن يتزوج من إخوانية لكي ينجبا أطفالا إخوانيين. وكما يكتب quot;عبده مباشرquot; في الأهرام [ 29 يونيو المنصرم]، فإن هذه التصريحات نكشف عن استعلاء وعنصرية، وهو ما لا تدل عليه التصريحات وحدها، فالإخوان يفضلون الشراء من إخوان، والبيع لإخوان. ولم ينس الرجل أن يزعم أن الإخوان قد هزموا الشرطة، وسيواصلون هزمها! فهل هذه هي العقلية التي تبنى بها دولة مدنية ديمقراطية؟! وهل نسينا تصريحات إمامهم القرضاوي، الذي حدد مفهوم الدولة المدنية بأنها التي تعتبر أحكام الشريعة مرجعيتها؟؟ -أحكام الشريعة، أي قتل من يغير دينه [الإسلام] والرجم، وعدم مساواة الأنثى في الإرث، ألخ.. وأخر ما في جعبتهم الهجوم التحريضي الساخن على دعاة تأجيل الانتخابات. وقد أدانت أحزاب لبرالية مصرية مثل quot; الجمعية الوطنية للتغيير quot; وquot; المجلس الوطني المصريquot; جماعة الإخوان وحزبهم quot; الحرية والعدالةquot; على ما وصفوه بالتصريحات غير المسئولة والأوصاف الهابطة التي أطلقها الدكتور محمد مرسي رئيس الحزب، متهما فيها دعاة التأجيل بكونهم quot; صهاينة، وأذناب صهاينة، وأذناب النظام الساقط، ومن المرجفين والمثبطين، والساعين لتحقيق مصالح الصهاينة والأميركيين.quot; [ الأهرام عدد 6 يوليو الجاري]- حقا هم quot;ديمقراطيونquot;!!

إنني أتصور اليوم، ولعلني مخطئ، أنه كان ممكنا التوصل لحلول وسط مع مبارك وبن علي قبل انتهاء مدة حكمهما، وأعني بعد اندلاع الانتفاضتين، واستبسال الشباب وإصراره. ومن رأيي أنهما قد أدركا استحالة الحكم كالماضي، واستحالة التشبث بالسلطة، وشعرا بالضعف أمام الزخم الثوري، وضرورة التراجع بإصلاحات مهمة على أن يغادرا السلطة بلا امتهان. ولكن عقلية القبول بالإصلاحات والتفاوض حولها بصبر، والضغط السلمي المتواصل لفرضها هي عقلية نادرة في الفكر والممارسة السياسيين للمعارضات الوطنية العربية، التي تريد الديمقراطية حقا، دع عنك المعارضة الإسلامية التي لا تؤمن أصلا بالديمقراطية إلا إذا حصروها في انتخابات تستعمل للهيمنة لاحقا.

إن الأنظمة تختلف، فالنظام السوري نظام طغياني دموي، وقد فوت فرص الانفتاح الإصلاحي الجدي، وهو المسؤول عما سيحدث لسوريا، ومن ذلك احتمال هيمنة الإخوان والسلفيين. أما في البحرين، فإن دعوة الملك الأولى قوبلت بتشدد مجموعات صغيرة متطرفة، وذات صخب داخل المعارضة السياسية الشيعية، مثلما قوبلت- كما أرى- بامتعاض وخوف ورفض عناصر في داخل الفئة الحاكمة نفسها؛ فكان التوتر والاصطدام، وجاءت أحكام السجن الثقيلة. واليوم تعاد دعوة الحوار الملكية، ويتجاوب معها الحزب الشيعي المعارض، المعتدل والأكثر شعبية، أي quot;الوفاقquot;- آملين أن تتطور الأمور إيجابيا، كما حدث في المغرب- أي بإصلاحات دستورية كبيرة، وبانفتاح سياسي يضمن مشاركة شيعية أكبر في إدارة البلاد؛ وبذلك نعزل العناصر المتشددة، وبذلك أيضا تضرب الخطط الإيرانية لاستغلال القضية باسم الدفاع عن الشيعة- علما بأن البحرين هو في مقدمة الدول المعتدلة في المنطقة، وإن استقراره حيوي لأمن شعوب المنطقة والعالم. وأود إضافة أن الحوار يعني الأخذ والرد، والتنازلات المتبادلة، وهو نقيض فرض الشروط المسبقة:quot; إما هذه كلها وإلا فلاquot;، ففي هذه الحالة لا يكون هناك حوار بل محاولة إملاء.

وهكذا، فإن الحوار الجاد حول التغيير في البلدان العربية وحول خطواته يتطلب مرونة من الحاكم، واستيعابا للمستجدات، واستعدادا لتقديم التنازلات المهمة باتجاه للتغيير، هذا من جهة؛ أما بالنسبة لقوى المعارضة اللبرالية والديمقراطية، فإن المطلوب مستوى مناسب من النضج السياسي، ووضوح الرؤية، والمرونة، وعزل المتشددين من أبطال كل شيء مرة واحدة أو لاشيء.

إن طريق الديمقراطية في المنطقة طويل، ولا يمكن السير الناجح نحوها بغير ثقافة وممارسة عقلانيتين ولبراليتين، وبغير أن ينعكس الإيمان بالديمقراطية في السلوك العملي للمواطنين ولمن يمارسون السياسة. كما أن الانتقال للديمقراطية يستدعي مكافحة الأمية، ونشر التعليم، والتعريف الشعبي بمبدأ المواطنة.

هذا ولنا عودة للموضوع في مقال تال.