في مقالين سابقين عن الصين، أشرنا إلى شهية الانتشار والامتداد الصينية، سكانيا، وماليا، وتجاريا، ودبلوماسيا، وفي كل القارات، وحتى داخل الدول الأوروبية نفسها، ومنها إيطاليا وفرنسا. وقد تطرقنا إلى الأساليب التي تتبعها الصين، والتي لا تراعي المعايير الدولية، كعدم احترام الملكية الفكرية، وكالحرب النقدية، وكاستنساخ الصناعات الغربية المتقدمة وبيع المصنوعات المستنسخة بأسعار رخيصة. وقد أدت مهنة الاستنساخ الصينية لتدمير الكثير من الصناعات الحرفية وغير الحرفية في أفريقيا السوداء والمغاربية.
كانت العلاقات الصينية ndash; الأميركية في عهد جورج بوش متقدمة حتى على صعيد العلاقات بين الرئيسين. ولما تولى أوباما الرئاسة، عمل على تحويل تلك العلاقة إلىquot; شراكة إستراتيجيةquot; ، لا في الميدان الاقتصادي وحسب، بل وأيضا في ميدان الدبلوماسية الدولية بأمل تليين مواقف الصين من دعم أنظمة عدوانية ككوريا الشمالية وإيران. كان جورج بوش قد دشن عام 2006 لقاءات دورية ثنائية دورية مرتين في السنة للحوار الاقتصادي والتجاري. وجاء الرئيس الأميركي الجديد ليغير عنوان الحوار إلى quot; الحوار الإستراتيجي والاقتصاديquot;. وانعقدت الدورة الأولى في يوليو- تموز- 2009، يوم كانت الأزمة المالية الأميركية والدولية طاحنة.
لقد اختار أوباما الصين للشراكة الإستراتيجية، مديرا ظهره لأوروبا، quot; القارة العجوزquot;، حتى أنه تعمد عدم حضور الاحتفال بسقوط جدار برلين في برلين، واعتذر عن عدم حضور قمة الاتحاد الأوروبي التي دعي لحضورها، مفضلا زيارة أندنوسيا والصين. ويذكر أن من أوائل إجراءاته عند تسنمه للرئاسة كان أن أعاد لبريطانيا تمثالا لتشرشل أهدته الحكومة البريطانية للبيت الأبيض غداة الانتصار على المحور الفاشي؛ فهو لم يأمر بنقل التمثال لمكان آخر في الولايات المتحدة، بل أعاده لبريطانيا في إشارة رمزية لعقدة عميقة تجاه الإنجليز. وقد انفجرت العقدة مع بقعة النفط التي سببتها الشركة النفطية البريطانية، والخطب المتكررة للرئيس الأميركي في إدانة الشركة وفرض تعويضات متكررة عليها مع أن المنشآت النفطية كانت أميركية الصنع. وقد ذكر الأستاذ عادل درويش في مقال له، عهد ذاك، أن خطب أوباما فجرت في الرأي العام الأميركي حساسية سلبية كامنة ضد الرجل البريطاني نفسه، وكيف أن هوليوود راحت تخرج من خزانتها أفلاما قديمة تعرض الرجل الإنجليزي كالأبيض المستعمر. يضاف أنه لم تكن سرا المعاملة الجافة التي لاقاها براون، رئيس الوزراء السابق، من أوباما.

ولم quot;يكتشف!quot; الأخير دول الاتحاد الأوروبي الأوروبية إلا عشية الانتخابات الأميركية الجديدة في سلسلة زيارات متعددة تمت مؤخرا.
إن الإدارة الأميركية، التي سيرتها في العهد الرئاسي الجديد أوهام كثيرة، من بين أبرزها وهم تلطيف شهية الامتداد الصينية وجعل الصين شريكة إستراتيجية، وأن هذه الشراكة quot;ستصوغ القرن الحادي والعشرينquot;، على حد تعبير أوباما، تستيقظ اليوم لتجد أن الواقع يمزق وهما بعد آخر من تلك الأوهام الرومانسية التي هلل لها الإعلام العربي أيما تهليل!

لقد أشار مقال في موقع quot; فورين بوليسي quot; في 24 سبتمبر 2010 إلى أن بروز الصين لا يشبه بروز اليابان السلمي في 1980. فاليابان كانت قوة تجارية من غير طموح توسعي إمبريالي. وليست هذه حال الصين التي تكاد لا تتستر على نواياها التوسعية.quot; [ ترجمة المقال في عدد quot; الحياةquot; بتاريخ 29 سبتمبر 2010] . وكان المقال يعالج التحرش العدواني الصيني باليابان في تلك الأيام، مدعية أن جزر أياويو في بحر شرق الصين،[ أو جزر سانكاكو كما تسميها طوكيو]، هي من أقاليمها، مهددة بالحرب القصيرة. فما يهم الصين هو بسط السيطرة على تلك الجزر الغنية باحتياطي النفط والغاز. أما اليوم، فإن الصين تعود للتحرش بفيتنام، مما دعا الأخيرة للقيام بمناورات عسكرية بالذخيرة الحية في بحر الصين الجنوبي قبالة سواحل فيتنام على بعد 250 كيلومترا من أرخبيل باراسيلز المتنازع عليه، وألف كيلو متر من أرخبيل سيراتليز المتنازع عليه أيضا. والأرخبيلان غنيان بالثروات النفطية. وللعلم، فإن الصين تنازع ايضا الفيليبين وبروناي وماليزيا وتايوان.
إن الاحتكاك بفيتنام ليس جديدا، والتوترات مع الدول المجاورة متواصلة، وفي كل مرة تستعرض بكين عضلاتها العسكرية. ففي عام 2009 استغلت الصين المناورات في العيد الستيني لتأسيس الجيش الأحمر للكشف عن غواصتها النووية شمال بحر الصين. وقبل أيام، أعلنت الصحف الصينية عن تشغيل حاملة طائرات كانت قد اشترتها الصين من أوكرانيا قبل سنوات، وتقول إن في النية زيادة عدد حاملات الطائرات إلى 4 حتى عام 2020. وقد انتقد تقرير للبنتاغون عام 2010 التوسع الصيني المستمر للقدرات العسكرية، بما يهدد تايوان، بل وقد يصل التهديد إلى جزيرة غوام الأميركية في المحيط الهادي- بحسب التقرير المذكور. واليوم تذهب هيلاري كلينتون إلى زامبيا لحضور المؤتمر الوزاري الأفريقي ndash; الأميركي لتندد بالتغلغل التجاري والاقتصادي الصيني في أفريقيا، بل وتعرّض تلميحا بالصين باعتبارها quot; استعمارا جديداquot;، محذرة الدول الأفريقية من الرهان على quot; أصدقاء يتعاملون مع النخبquot;، وداعية لضرورة التركيزعلى quot; شركاء قادرين على مساعدة القارة في تكوين إمكانات اقتصادية على أراضيها.quot;

وقد ردت الصين على تصريحات كلينتون، كما ردت على دعوة فيتنام للمجتمع الدولي، أي أميركا أولا، للتدخل في وجه الأطماع الصينية في تلك المنطقة. وردت الصين أيضا بدعمها للموقف الروسي ضد مشروع الدرع الصاروخية- علما بأن كلا من الصين وروسيا تتنافسان على النفوذ في أسيا.
وهكذا تنتهي quot;شراكةquot; أوباما إلى استقطاب أميركي- صيني في أفريقيا، وفي جنوب شرقي آسيا، وعلى صعيد سوق النفط العربي، وإلى مصاعب في مجلس الأمن بقدر ما يتعلق الأمر بإدانة النظام السوري، وكذلك الخلاف حول ليبيا.

إن معضلة الصين هي أنها، وبرغم اتباعها لاقتصاد السوق، لا تزال دولة الحزب الواحد، والقمع المستمر، والإعدامات بالجملة.
إن الانتفاضات العربية قد كشفت مجددا عن التشبث الصيني بدعم أنظمة الاستبداد أينما كانت لان ما يهم قادة الصين ورجال أعمالها وشركاتها الكبرى هو الاستثمار والربح وموارد النفط والغاز. فالصين شريك تجاري ونفطي أساسي لإيران والسودان، كما لها حصص في النفط السوري؛ وهي التي تدعم بقوة كوريا الشمالية، وغينيا، وبورما. ولا نعتقد أن المراهنات العربية على صداقة الصين في وجه الغرب، وأميركا بوجه خاص، مضمونة. وهذا ينطبق أيضا على مجلس التعاون الخليجي ومشروع التجارة الحرة بينه وبين الصين. وإن الارتجاجات العربية الراهنة يجب أن تعلم دول الاستبداد في العالم quot; الثالثquot; بأن الدعم الصيني والروسي لهما لن ينجيها من غضب الشعوب والعزلة الدولية. وهذا ما يجب أن تفهمه، على نحو خاص، الأنظمة الشمولية الدموية في إيران، وسوريا، والسودان.

هامش:
بعد كتابة المقال، وردت الأخبار عن التدخل الصيني في الأزمة المالية اليونانية الكبرى التي تكاد تهدد منطقة اليورو كلها برغم مساعدات الاتحاد الأوروبي.. فقد شرعت الصين بشراء العديد من المشاريع والمؤسسات المالية الكبرى المعرضة للانهيار، وبذلك تخترق منطقة اليورو والاتحاد الأوروبي. ويذهب رئيس الوراء الصيني بنفسه لهذا الغرض بينما تظهر المقابلات التلفزيونية غضب العمال والموظفين اليونانيين لهذا المصير المأساوي للاقتصاد والنظام المالي اليونانيين، ولهذه التبعية الجديدة للصين

ولنا عودة للموضوع .