هزتني جريمة العدوان الأثيم على كنيسة الإسكندرية مثلما هزت الضمائر في العالم، وكما هزتها، من قبل، جريمة العدوان على كنيسة النجاة في بغداد. وقد ارتأيت التوقف هنا على أن أؤجل لمقالات تالية حديثي عن إشكاليات الهجرة والتطرف الإسلامي في الغرب والمخاوف الغربية- علما بأن للموضوعين صلة، وأقصد أن جريمة الإسكندرية سوف تزيد من مشاعر القلق الغربية من التطرف الإسلامي ومن عمليات الإرهاب الجهادي، إن في الغرب أو خارجه.
إنني كمثقف عراقي، من عائلة مسلمة، وكإنسان من مواطني العالم، أعلن عن إدانتي الصارخة للجريمة، وأعبر عن عواطف المواساة الحارة مع عائلات الضحايا، والتضامن مع أقباط مصر، وكذلك مع مسيحيي العراق وكل مسيحيي الشرق، الذين يتحولون إلى رهائن لثقافة وأفكار التعصب والتطرف المنتشرة على امتداد العالم الإسلامي، وابتداء من مناهج التعليم للأطفال.
في العراق صار المسيحيون أمام خيار حقيبة السفر أو التابوت. وأما أقباط مصر، وهم لحمد الله لا يزالون قوة عددية ولهم تأثير وصوت، فهم يعانون، منذ حوالي العقدين أو أكثر، من غوغائية الأفكار الإخوانية والطالبانية، التي وجدت ما يفسح لها المجال من أجهزة الدولة وسياساتها ومن تخلف المجتمع، إن في المدرسة أو القضاء، أو الإعلام، أو المنظمات المهنية. والمظاهرات الغوغائية للشارع المسلم المصري ضد الكنائس بحجة حجز مسيحيات أسلمن، والاعتداءات المتكررة على الأقباط،، وهجمة رجال الأمن على أقباط يبنون كنيسة، كانت مؤشرات مرعبة تنذر بما هو أدهى وأخطر.
إن التساهل مع أفكار التطرف الإسلامي لاعتبارات سياسية سلاح ذو حدين كما برهنت جريمة اغتيال الراحل السادات، وكما برهنت تجربة تشجيع المتطرفين الإسلاميين في أفغانستان ضد السوفييت، ثم انقلابهم على أميركا، وتحول أفغانستان إلى أوكار للقاعدة وطالبان ومراكز للإرهاب وتصدير الإرهاب.
يقول الأستاذ طارق الحميد إن على المصريين اكتشاف ما فعله بهم الخطاب المتطرف، وأن يقارنوا بين تعليم اليوم في مصر وبين تعليم الأربعينات والخمسينات والستينات مثلا. نعم، للتعليم دور كبير، سلبا أو إيجابا، في تكوين الفرد منذ الطفولة، وكذلك دور العائلة. فكيف ينشا تلميذ يدرسونه كتب سيد قطب الإسلامية المتطرفة الداعية للعنف؟ ولابد أن يتذكر القارئ تلك المقالات التحليلية المتميزة للأستاذ عادل جندي في إيلاف [ 2008 ] عن quot;طلبنة التعليم المصريquot;، استنادا إلى قراءة نافذة لمناهج القراءة للمدارس الابتدائية، وحيث نجد اتجاها واضحا لتغييب فكرة المواطنة لحساب الانتماء الديني ـ الإسلام طبعا كquot;دين اللهquot; الأوحد، في حين كانت مصر هي صاحبة شعار quot; الوطن للجميع والدين لله.quot;
حسنا كانت ردود الفعل العربية على الجريمة، ولكن من يتمعن في معظم التصريحات المذكورة، يجد التركيز على التضامن مع مصر ضد الإرهاب. وهذا ضروري طبعا، وواجب، ولكن قلة من تلك التصريحات ركزت على خطط ومشاريع تطهير البلد من المسيحية والمسيحيين، وهي جزء من مخطط أكبر نشهد تنفيذه المتسارع في العراق. إنه مخطط يشترك في وضعه أكثر من طرف واحد ومنفذوه أكثر من جهة واحدة، ولكن ما يجمعهم جميعا هو التعصب والتطرف الدينيان، والإسلام السياسي بشقيه المذهبيين. ومع أن المسألة ليست أمنية وحسب، أي حماية أمنية ناجعة وفعالة للمسيحيين وكنائسهم، فإن التقصير الأمني في حالتي مصر والعراق بين وظاهر. وقد تعرض المسيحيون العراقيون للقتل والتهجير وحرق الكنائس منذ سقوط صدام، وبرغم وعود الحكومات المتعاقبة، وحكومة المالكي خاصة على مدى سنوات حكمها ولحد اليوم، فإن ضرب الكنائس وقتل المسيحيين وتخويفهم ظاهرة مستمرة في حين تحشد الحكومة، ولاعتبارات سياسية والمتاجرة بالمذهب، قرابة مليون رجل امن وعسكري وشرطي لحماية quot; الزيارات المليونيةquot; إلى الكاظمية وكربلاء والنجف. فالإسلام السياسي والتطرف الإسلامي قائمان على عدم الاعتراف بالأقليات الدينية، ودغدغة وتملق مشاعر الشارع المسلم برغم التصريحات وبنود الدساتير. فلا دين غير الإسلام. كما أن العدوان على المسيحيين له خلفيات سياسية أخرى، وهي كراهية الغرب والاعتقاد بأن المسيحي العربي هو امتداد لفرنسا أو إيطاليا أو ألمانيا، أو أميركا، ألخ، خصوصا مع وجود نسبة عالية من المثقفين المسيحيين ممن يلمون بلغات غربية، والمكانة الفريدة للمرأة المسيحية. وقد أشرت في مقالات سابقة إلى ما يصيب المسلم الذي يغير دينه والحكم عليه بالردة. وفي الجزائر حكموا على مسيحي ثلاث سنوات لأنه وجد يأكل سندويجا في رمضان. والمسيحي عند الجزائري هو quot;كاوريquot; ومقرون لا محالة بالفرنسي. وفي العراق أجبرت المسيحيات على لبس الحجاب.
إن الرئيس المصري مدعو لإعادة النظر جديا في قضية العلاقة بين المسلمين والأقباط في مصر ووضع الخطط لمكافحة أفكار التطرف، ولغرس فكرة المواطنة بين المصريين- بدأ بالمدرسة. كما أنه مدعو لضمان حماية أمنية كافية للأقباط وكنائسهم وإطلاق سراح الشبان من الأقباط الذين اعتقلوا في اصطدامات محاولة بناء كنيسة، وعدم وضع القيود الثقيلة على بناء الكنائس، وذلك أسوة ببناء الجوامع.
والمثقفون المصريون والعرب المسلمون، من العلمانيين الحريصين على دور مصر واستقرارها، وعلى مكانة العالم العربي وسمعة الإسلام، مدعوون لتنظيم حملة تضامن كبرى مع المسيحيين العرب، لاسيما مع مسيحيي العراق والأقباط، والقيام بمبادرات وتحركات على نطاق العالم العربي والمجتمع الدولي كله، ومطالبة الأمم المتحدة ودول الغرب خاصة لكي ترفع أصواتها أعلى فأعلى تنديدا بالجرائم التي يتعرض لها المسيحيون العرب، ولمطالبة الحكومات العربية المعنية باتخاذ الإجراءات الفعالة لحمايتهم وضمان حريتهم الدينية الكاملة.
إن تفريغ بلداننا من المسيحيين واليهود والصابئة المندائيين وغيرهم من أبناء الأقليات الدينية، هو بمثابة اجتثاث لتاريخ المنطقة، وعدوان على الوحدة الوطنية، واندفاع محموم نحو كهوف الظلام.