الحلقة الاولى

منذ أسابيع، ومقالات وتعليقات فريق من الكتاب العرب، مصريين وغيرهم، من الحريصين على نجاح الشعوب العربية في الوصول لحياة أفضل، تشخص ظواهر مقلقة في الشارع العربي، وفي مصر خاصة نظرا لدور مصر المحوري. وهؤلاء الكتاب يبدون مخاوفهم ويتقدمون ببعض الأفكار والمقترحات. وفي فورة التمجيد الشعبي العام، تتوارى أخبار انتهاكات ينفذها بعض المعارضين أنفسهم، كما في ليبيا من قتل الأسرى والسود، حسب الأخبار المتواترة. وأما في اليمن، فخبر عن قطع المتظاهرين للسان شاعر لأنه نظم قصيدة في مدح الرئيس اليمني، كما نعرف عن قطع أذن قبطي في مصر. إنها ثقافة وممارسة العنف على الجانبين، مع اختلاف في الدرجة، وفي المسؤولية، إذ رغم بشاعة الجرائم المذكورة، فإن ما هو أفظع وأبشع قيام نظام الأسد بقطع قدمي متظاهر لأنه داس على صورة الأسد، كما ورد في بعض الصحف- جريمة تضاف لمئات من الجرائم التي يقترفها ذلك النظام الدموي، الذي يستسيغ هدر الدم. ومهما يكن، فإن جرائم العنف يجب أن تدان، أيا كان مقترفها. ونذكر أيضا تجاهل الدول الكبرى نفسها لدور قوات الحسن وترة في ساحل العاج في انتهاكات توازي جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. فالموسم هو موسم تمجيد quot;الثوارquot;، وتجاهل ما يقترفه بعضهم!

وفي الوقت نفسه تنشر quot;نيويورك تايمزquot; مؤخرا تقريرا تحليليا وتحذيريا، نشرت إيلاف خلاصته في 23 مايو الجاري، عن ظواهر الانقسامات في الانتفاضات العربية، من دينية وأصولية في مصر، وأصولية في تونس، وطائفية في سوريا والبحرين، وعشائرية في ليبيا [ وأضيف: قاعدية أيضا، كما الخطر في اليمن عشائري وقاعدي]؛ ذلك أن في هذه الحركات تيارات ومجموعات مختلفة المشارب والغايات، وقد تجمعت متفقة على ترحيل الحاكم، ولكن تلك quot;الوحدةquot; لا تطمس عمق الانقسامات التي شرعت تدريجيا بالظهور، حتى يأتي يوم يستفرد فيه طرف ما [أو ائتلاف أطراف] بثمار النصر مستقبلا. والثورة الإيرانية مثال توضيحي حيث شاركت فيها أحزاب وتيارات ومجموعات متضادة المنطلقات والعقليات والأهداف، اتحدت ضد الشاه، وما أن سقط، حتى استحوذ الملالي خطوة فخطوة على كل السلطة نظرا لما كان لهم من تأثير شعبي كاسح. لقد كنت من بين من سعدوا بانتفاضتي تونس ومصر عند اندلاعهما، وهما التجربتان الأكثر تقدما من غيرهما حتى اليوم. ولكن، وبعد حوالي أربعة شهور تقريبا، ينتابني القلق للظواهر والأحداث التي تطفو على الساحة، وعلى الخصوص في مصر، وهي ظواهر وأحداث تتالى وتتكرر.

ما الذي حقق الشارع المصري حتى الآن، بعد ترحيل مبارك؟ إطلاق سراح زعماء الجهاديين والسلفيين؛ عودة زعماء إخوانيين، زار منهم من زار طهران وعاد، وإطلاق بعضهم من السجن؛ اعتقالات رموز النظام السابق ومصادرة أموال وتحقيقات؛ استمرار عمليات اعتصام والمظاهرات والإضرابات؛ قوائم تحريض وتشهير باسم quot; قوائم العارquot;؛ طلاب يجبرون عمداء على الاستقالة؛ محررو صحف ومجلات يملون إقالة رئيس التحرير؛ عودة هيكل إلى صفحات الأهرام؛ استفتاء دستوري لصالح الإسلاميين؛ انفتاح على إيران؛ تزكية منظمة حماس الإرهابية التي تقيم في غزة نظاما طالبانيا مواليا لإيران وسوريا؛ مصادمات دينية دموية دون أن ينال أحد المذنبين عقابا؛ أمن متدهور حتى أن صحفية غربية تغتصب في ميدان التحرير نفسه، بعد أن كانت مظاهرة نسائية في عيد المرأة قد فضت بالقوة في الميدان، ألخ..

لقد أحيل مبارك وولداه على محكمة الجنايات بتهم عقوباتها ما بين الإعدام والمؤبد. ولكن أية محاكمة عادلة يمكن إجراؤها وquot;شباب الثورةquot; يرفعون في ميدان التحرير الهائج شعار quot;لا بديل عن الإعدامquot;؟!! ويقينا لو صدر حكم أقل من هذا لتنادوا إلى سلسلة quot;جُمَع الغضبquot; حتى يعلقوا هم أنفسهم مبارك والعائلة على المشانق! وإنها لثورة حتى تتواصل الدماء سفحا وانهمارا! وها إن الغوغاء في شرم الشيخ يهاجمون المستشفى الذي يقيم فيه مبارك- فيا للثورية المنفلتة!

إن هوس الثأر، وشهية وقفات الغضب أمام الكاميرات، لا يمكن لهما صنع ثورة تأتي بالبديل الأفضل. وهناك تقارير صحفية تخبرنا أنه لم تعد نادرة حوادث اغتيال في جنح الظلام لشخصيات من الحزب الوطني في مصر والحزب الدستوري في تونس.

لاشك في أن مهمة المجلس الوطني صعبة للغاية وسط هذا الهياج العام والانكفاء الأمني، والتصعيد في المطالب كل يوم، بحيث يبدو وكأن مهمة المجلس والحكومة صارت منحصرة في تلقي الأوامر من الشارع، خاصة وهناك بوادر تعرض المجلس نفسه للتحامل في الشارع المتظاهر. وقد صارت اللوحة متشابكة ومركبة لدرجة أن بعض الكتاب المصريين يكتبون أن الإخوان هم من يحكمون مصر، والقصد السياسة التي يسير عليها المجلس العسكري وحكومته، علما بأن آخر مظاهرات الجمعة كشفت عن هوة بين quot;شباب الثورةquot; والإخوان، الذين رفضوا نداء المظاهرة لكونها، حسب رأيهم، ضد نتائج الاستفتاء الدستوري. ومهما يكن، فإن رفضهم المشاركة في جمعة الغضب الأخيرة كان صائبا، وليس كل ما يقولونه يجب أن يدان. هناك من يخفف اللهجة ليقول بوجود اتفاق ما، ربما اتفاق موضوعي، بين الإخوان والمجلس. وهناك من يذكّرون بالحلف الذي كان قائما عشية الانقلاب الناصري بين الضباط الأحرار والتنظيم المسلح السري للإخوان؟! وكاتب عربي يخشى أن يتمخض quot;الربيع العربيquot; عن quot;أشكال حكم عسكرية دينية، أو دينية متلبسة بغطاء صناديق الانتخابquot;.
جملة توصيفات لعلها ناجمة عن القلق والحيرة في فهم السياسات الراهنة في مصر على وجه الخصوص، ولحد آن هناك من يتنبأ بقيام محور مصري- إيراني- تركي؟! أما الأستاذ عبد الرحمن الراشد، فيذهب لحد اعتبار ما حدث في مصر، من ملاحقة مبارك وسيف الإعدام المسلط عليه، قد جعل التجربة المصرية دموية، وإنها ساهمت في جعل بقية الانتفاضات العربية دموية، ما دام الحاكم يعلم أنه، حتى لو ترك السلطة، فإنه سوف يطارد وقد يقتل. وهذا ما يجعله يستميت للتشبث بالبقاء. وهذه الفرضية مفتوحة للنقاش. ولكن، من خلق أصلا حالة الهياج المستعرة في الشارع غير الحكام المستدين أنفسهم؟! ومن هنا، يجب عدم استخدام هذا الوضع لغاية في نفس يعقوب، أي بحجة التخوف من هذا التطور الدموي، يشكك البعض، لاعتبارات مختلفة، عن قناعة، أو قد يكون بعضها ذاتيا ونفعيا، في ضرورة إسقاط الأنظمة العربية الاستبدادية.

لكن إذا تركنا هذه التكهنات والتوقعات والتحذيرات، فلاشك عندي في أن التيارات والمجموعات الإسلامية هي الرابح الأكبر في مصر، [ وربما ستكون في تونس أيضا]، وهي ذات التأثير الأكبر في المجتمع، لاسيما الإخوان الذين جاءت التعديلات الدستورية كما أرادوا. فهل من عجب أن يهتف الإخواني، المهندس سعد الحسيني:

quot; يا سلفيين، يا صوفية، يا أنصار السنة.. لا نوم بعد اليوم حتى نمكّن لهذا الدين في مصر!quot;، داعيا صراحة لتطبيق الشريعة وإقامة الحد. ومع ذلك يقال فلننتظر ونر ما سيفعلون لو quot;امتلكوا الأرضquot; بالانتخابات- وكأن تجارب العالم الإسلامي مع أحزاب وجماعات الإسلام السياسي لا تؤكد أنها جميعا تمارس نهج التقية والمرحلة، وأنها بحكم أيديولوجيتها معادية للديمقراطية. وليست كل مشاركة في الانتخابات تعني الديمقراطية، كما تبرهن تجربة العراق التعيسة.

الأمن مهتز، والشارع لا يكف عن التظاهر والإضراب بينما مصر تكاد تفلس، و70 بالمائة تحت خط الفقر، وخسائر يومية بمبلغ 20 مليون دولار يوميا [ حسب الأهرام]، وهناك 20 مليون أمي، والسياحة متوقفة؛ فمتى تأتي جمعة quot;حان وقت العمل والبناء. حان. حانquot;؟! إنها لأرقام مفزعة رغم أن مما يخفف من الوطأة بعض الشيء مساعدات أميركا والسعودية والمساعدات الدولية والخليجية الجديدة التي تقررت في اجتماع الدول الغنية الثماني. فهل ليس مقلقا أن تحاول فئات بعينها إشعال لهيب التوتر الخارجي باسم القضية الفلسطينية، هذه القضية التي قدم شعب مصر من أجلها تضحيات أكثر مما قدمتها بقية الشعوب العربية؟؟ إن خدمة هذه القضية لا تتم بالهجوم على سفارة، أو الزحف باسم quot;تحرير القدسquot;. إن خير خدمة تقدمها مصر للشعب الفلسطيني والمنطقة هي نجاحها في بناء نظام ديمقراطي، واقتصاد قويي، وتعليم عصري، وضمان العدل الاجتماعي، وحرية المرأة، والحرية الدينية الكاملة، وحل المشكلة القبطية وفقا لمبادئ الديمقراطية والمواطنة والمساواة بين المواطنين، وفصل الدين عن الدولة.

إن الشارع يمكن أن يكون ينبوع تضحيات ونضال من أجل الخير والبناء والتقدم، ولكنه أيضا، وفي حالات أخرى، قد يكون، داعما لتيارات تسلطية، وقيم متخلفة بالية، وعامل فوضى شاملة لا تبقي ولا تذر. وفي معمعة التحرك الجمعي العاطفي في الشارع، تذوب الشخصية الفردية، وتتجه المشاعر والأفكار في اتجاه واحد، ويتعرض الجمع لحالات هياج قد تلغي القدرة الفردية على التأمل والتمعن. ولذا تأتي ضرورة التأكيد على دور النخبة الواعية في التنبيه والتحذير وفي التوعية.

كما نلاحظ، عن الحالة المصرية الراهنة، تجنب اللبراليين والعلمانيين مجرد ذكر هدف العلمانية، والتركيز على هدف الدولة المدنية. ويقول بعض الكتاب المصريين إن أكثرية المصريين يخافون العلمانية ويرفضونها، ويقول آخرون إن العلمانية أسئ فهمها شعبيا على أيدي الإسلاميين ولذا يجب تجنب زجها في النقاشات السياسية الدائرة. وما نراه هو أن العكس صحيح؛ فتجنب التأكيد على العلمانية هو الذي يفسح المجال واسعا للتيارات الإسلامية لتشويه مضمون ومعنى الدولة المدنية. إنهم هم أيضا مع الدولة المدنية كما يدعون، ولكن بشرط أن تكون مرجعيتها أحكام الشريعة- أي دولة غير ديمقراطية، بل هي دينية. ولن أنوقف كثيرا هنا، وسبق لي أن نشرت في 13 يناير 2003 دراسة بعنوانquot; الدولة الديمقراطية علمانيةquot;. وقد أعود لهذا الموضوع في مناسبة أخرى. والواقع أن العلمانية وحدها تفسح المجال الرحب للحريات الدينية وحرية المعتقد، أيا كان. كما أنها تعني سيادة العقل، وتشجيع روح النقد، والشعور بالمواطنة، والمساواة بصرف النظر عن العرق، والمذهب، والدين، والجنس. وأما quot; المرجعية الإسلاميةquot;، فإنها العكس تماما. فكيف تبنى دولة مدنية على أساسها؟!

وإذا تركنا الخوف من ذكر العلمانية بين العديد من القوى والمجموعات اللبرالية والديمقراطية واليسارية المصرية، فنود الإشارة إلى أن عددا من الأحداث الدولية والعربية قد أظهر درجة من تقارب الخطاب السياسي بين المجلس العسكري والحكومة والإسلاميين والأحزاب المعروفة، حتى شباب الفيس بوك. من ذلك مثلا مقتل بن لادن، ويوم quot; النكبةquot;، ثم خطاب أوباما.

عندما ألقى أوباما خطابه الأول عام 2009، عقب الناطق باسم حركة التغيير quot; كفايةquot; بقوله إن الخطاب quot; نسخة كربونية من سياسة بوشquot;. وانتقد حديث أوباما عن الديمقراطية في المنطقة، واعتبر حديثه عن الحرية الدينية محاولة للتدخل في الشأن القبطي، وأضاف بأن أوباما quot; لم يتحدث عن آلاف العراقيين الذين لقوا مصرعهم على يدي آلة القتل الأميركيةquot;!! هذه كانت خلاصة تعليق حزب المعارضة، الذي كان يطالب بالتغيير، وكما جاء على لسان المنسق العام السيد عبد الحليم قنديل في 4 حزيران- يونيو- 2009. أما عن مقتل بن لادن، فنعرف مواقف السلفيين وصلاتهم الجماعية، وتصريحات التمجيد الإخوانية، ولاسيما تصريحات زعماء حماس، وتصريح الحكومة المصرية عن إدانة quot;عنف الدولةquot;. وأما عن خطاب اوباما الجديد، فكانت ردة الفعل الغالبة سلبية، ولكن أكثر ما لفت نظري تصريحات السيدة أسماء محفوظ،، التي قدمت نفسها كإحدى قيادات شباب ثورة 25 يناير. تقول الناشطة إن هدف الخطاب كسر عزلة إسرائيل- [ هل سمعتم شعارا عن فلسطين وإسرائيل في الأيام الأولى لميدان التحرير؟؟!!]، وإن أوباما يخشى مصالحة فتح وحماس، [ ألا تدري السيدة أن حماس منظمة إرهابية ولا تريد حلا سلميا؟!]، لتضيف لافظ فوها:

quot; الأجدر بأوباما قبل أن يحدثنا عن الديمقراطية والقيم الأميركية أن يلتزم بهذه القيم. كان الأجدر به أن يقدم بن لادن لمحاكمة عادلة، لكنه تصرف كقاطع طريقquot; [ الشرق الأوسط في 20 مايو 2011 ]. ترى هل حقا يجهلون أن عدد من قتلوا من العراقيين في تفجيرات واغتيالات قاعدة رمز الإرهاب، بن لادن، هو أضعاف، وأضعاف من قتل منهم في أيام الحرب؟؟ ويأتي باتريك سيل للمزايدة معهم مجددا في صحيفة quot; الحياةquot;، مبررا جرائم القاعدة بفلسطين والعراق، وهو الذي لم يكتب حرفا واحدا عن القمع الهمجي للنظام الأسدي العزيز عليه جدا!

هل هذه الأفكار والأحكام المصرية، المشار لبعضها أعلاه، هي حقا العقليات التي كانت تسير اعتصامات التحرير في أيامها الأولى، وقبل أن يختلط الحابل بالنابل؟ وهل ليس مبررا أن نقلق من عودة الشعارات العتيقة للميدان، شعارات المرحلة الناصرية وشعارات الإخوان، بدل أهداف البناء، والديمقراطية، والحرية الدينية، وحقوق المرأة- وأعني شعارات quot; المعركةquot;، وquot; الشهادةquot;، ونظريات المؤامرة، وكراهية الغرب؟؟

هل تبدلت الشخصية المصرية فجأة، بعد أن كان المصري معروفا بالاعتدال بالعكس من الشخصية العراقية الموسومة بالعنف، تاريخا طويلا، وممارسة؟ أم إن الشخصية المصرية الأصلية كانت راقدة وسنحت لها اليوم فرص وظروف البروز؟ الباحث العراقي عبد الجليل طاهر قدم في بحث قيم له حول الشخصية العراقية فرضية القواقع، ومفادها أن العراقي يعيش في سلسلة من القواقع، وهو ينتقل، بل يقفز، من واحدة لنقيضها حسب الظروف والحالات. ولعل الشخصية العربية عموما هي هكذا، لا الشخصية العراقية وحدها، مع اختلاف في الدرجات. ففي أيام الاعتصامات المصرية الأولى، بدا على السطح وئام وصفاء نموذجيان بين المسلمين والأقباط، ولكن سرعان ما وقعت المصادمات الدينية المتكررة والعنيفة لأبسط إشاعة أو حكاية كاذبة؛ فالمخفي في باطن الشخصية، والمتراكم عبر عقود، برز فجأة ليغطي على ما ظهر على السطح في أيام الاعتصام الأولى. لكن أي من الشخصيتين هي الأصيلة، وأي منها هي العرضية ومن إفرازات اللحظة الثورية؟

حين يكثر الحديث عن الثورات هذه الأيام، فغالبا ما يُنسى أن الثورة الديمقراطية الحقيقية تعني قبل كل شيء ثورة في الثقافة السائدة، وفي القيم والممارسات، وللقائمين بها أهداف مدنية وعصرية واضحة، ولا يمكن تحقيق ثورة، بمعنى البناء الديمقراطي السليم والعدالة الاجتماعية، والاقتصاد المتين، بالغريزية الساخنة والقيم التي تنتقص من قيمة المرأة، وبغموض الأهداف وتضاربها، وبالعقلية التي ترفض المرونة السياسية، وتكره الآخر- وهو ما سبق لي تناوله أكثر من مرة. وحين ينتفض ممثلو شباب الثورة ثائرين بغضب على اجتماع الحوار الوطني بسبب حضور لفيف من كوادر الحزب الوطني، أتذكر حالا حالة الاجتثاث العراقية الراهنة التي حرمت العراق من كوادر ذات تجارب وإن كانت يوما ما في عضوية حزب البعث لسبب من العراق الملطخة الأسباب، وحيث كان الحزب يضم مليوني شخص لم يكن إلا 1 بالمائة منهم من أيديهم بالدم. ثم هناك القضاء الموجود لمحاسبة من تثبت عليهم تهمة عنف أو فساد. والحرية لا تتجزأ، وكذلك المواطنة، ما دام المواطن، وأيا كان، غير مدان بحكم قضائي. ويكتب الدكتور مصطفى الفقي في الأهرام تحت عنوان quot; آراء عربية حول الثورة المصريةquot; [ 17 أيار- مايو- 2011 ]: quot; يخشى الكثيرون من عشاق quot;مصرquot; في الوطن العربي من شهوة الانتقام وروح التصفية التي تسود بين الأغلب الأعم من المصريين ويرون أن تلك الروح الراقدة لم تكن طبيعتهم عبر تاريخهم.quot; ويضيف الكاتب أنه كان يشرح لمن قابلهم من العرب أن السبب يعود لحجم الفساد السياسي والمالي والإداري، واختلاط السلطة بالثورة، وشيوع الفقر، مما غير فطرة المواطن المصري، وجعل روح الانتقام مبررة لديه. ويعترف الكاتب بان تفسيره هذا لم يكن مقنعا للجميع، وأنا أعتقد أنه نسي عاملا هاما جدا وهو دور التطرف الديني وتأثيره على الشارع المصري خلال العقود الأخيرة؛ فالمجتمع المصري في الأربعينيات ليس هو مجتمع اليوم. ولكن الكاتب محق في التأكيد على دور الفقر والشعور العميق بالغبن. وتبقى المسئولية الكبرى والأولى على سلوك، ومواقف، ودعايات النخب السياسية، والدينية، والثقافية؛ على الخطاب الديني المتزمت والمتطرف، وعلى الأيديولوجيات المغلقة، مهما كانت طبيعتها. وهذا ما يفسر لحد كبير ما حدث بعد ثورة 14 تموز العراقية، وبعد سقوط صدام، من انتهاكات، وانفلات للغرائز، ونزعات وصولية أنانية، وصراعات فئوية. ومن تحول شرائح من الجماهير إلى غوغاء متعطشين للدم- آملا من القلب أن تستطيع مصر الغالية تجنب أمثال هذه المنزلقات التي تكلف أغلى الأثمان، بشرية، وسياسية، واجتماعية، ومادية، وبما قد يجعل الآتي أخطر من البائد.