أصل هذا المقال بضع تداعيات على احتفالات زفاف كيت- وليام، التي تابعها من الشاشات أكثر من مليارين من البشر في مختلف القارات. وما أن انتهيت من المقال وأوشكت على إرساله، حتى جاء، فجرا، نبأ قتل العدو الأول للبشرية والحضارة والدين- المجرم بن لادن، الملطخ اليدين بدماء عشرات الآلاف من الأبرياء ومعظمهم مسلمون.

في لندن، كانت فرحة الناس طاغية للزفاف الرمز، وفي واشنطن ونيويورك، هرع الناس فور إعلان النبأ إلى الشوارع للاحتفالات العفوية، معتزين ببلادهم، ومتذكرين ضحايا 11 سبتمبر، ومن راح قبلهم وبعدهم، ولكن من دون نشوة غرور لأن خطر القاعدة باق، ولعل الإرهابيين سيصعدون من عملياتهم الإجرامية انتقاما وفي محاولة للبرهنة على quot; نحن هنا.quot; ومقتل بن لادن هو انتصار أخلاقي وسياسي ومعنوي لجميع المؤمنين في العالم بالقيم الإنسانية والتقدم الحضاري والأخوة بين البشر. ونحن في العراق، قد عانينا الكثير من زرقاويّي بن لادن، ووقع المئات والمئات من الشهداء الأبرار بمفخفخات ورصاص مجرمي القاعدة، وما حصل من قطع للرؤوس وإنشاء لدويلات طالبانية حيثما استطاعوا، في هذا الجزء أو ذاك من أرجاء العراق، ومن إشعال للحرب الطافية، هم وجيش المهدي وبقية مليشيات إيران وأعوانها في العراق. نعم، إن quot;أعمار الطغاةquot; والمجرمين، مهما طالت، لقصيرة، وإن عقاب العدالة قادم لا مناص.أما مهرجان الفرحة بزفاف كيت وويليام، فمن طبيعة أخرى. وهنا أعود إلى أصل مقالي، وكان عنوانه quot; كيت- ويليام، سر الجاذبيةquot;.

لقد تساءلت: لماذا كان اهتمام أكثر من ملياري نسمة من سكان المعمورة بحدث زواج كاترين ndash; ويليام؟ لماذا كان تدفق السائحين إلى لندن، وتوجه التلفزيونات العالمية إلى هناك، من دول معظمها جمهورية، بل حتى من دول كالصين وكوريا الشمالية؟ هل صار هذا العدد الكبير من البشر من دعاة الملكية في القرن الحادي والعشرين؟ كلا بالطبع. وهذه فرنسا، التي كانت قد نحرت رأسي الملكة والملك، نجد وسائل إعلامها جميعا في منتهى الحماس للحديث عن الزواج، قبل المراسم، وخلالها، وبعدها، ونقل المشاهد ساعات، في تلبية لرغبات الجمهور. إذن ما السر؟؟

في رأيي، وقد تابعت ضمن المليارين من سكان العالم مراسم الزواج، أنه كان مهرجانا بهيجا فريدا يرمز، في آن واحد، لدفق الشباب، وسحر الجمال، وقوة الحب، وإشعاع الأمل، وفرحة طاغية ينشدها العالم وسط عالم من الكوارث والمشاكل والصعوبات والآلام؛ وبالنسبة للبريطانيين، العزة الوطنية أيضا، وقبل كل شيء. وقد أذهلني الشعب البريطاني، مرة أخرى، بهذه المشاركة المهرجانية العفوية، الصادقة، وخصوصا الشباب، الذي رأينا آلافا منه، قبل أسابيع، يتظاهرون بصخب ردا على إجراءات التقشف الحكومية، ويعيدون التظاهر. نعم، هناك دعاة الجمهورية بين البريطانيين، ولهم مراكز إعلام قوية- [ من أصدقاء الجزيرة !]- كصحف الإندبنديت والغارديان وكوادر البي.بي. سي، ولكنهم، رغم دورهم الإعلامي، لا يمثلون مشاعر غالبية الشعب البريطاني وشعوب الكومونولث. وقد برهن الشعب البريطاني مرة أخرى، وبأكثريته الساحقة، على التفافه حول ملكية دستورية تقوم في أعرق ديمقراطيات العالم، وها هي تتطور ديمقراطيا، فتفتح أبواب القصر أمام مواطنة من بنات الشعب، لا من الطبقة الأرستقراطية، لتكون أميرة؛ إنها كيت ميدلتون.

لا ننسى أيضا أن الشعب البريطاني والمتابعين الأجانب المبتهجين معه كانوا، طوال المشهد، بل وقبله، يفكرون أيضا في أم ويليام، الراحلة ديانا، التي لا تزال على بال البريطانيين، خلافا لكاتب عمود يومي ثابت في الشرق الأوسط، كتب قبل حوالي العامين بأن ديانا كانت مجرد أكذوبة، ونسيها البريطانيون نادمين على حبها! تحامل مقيت ومقزز، وبلا مبرر، على أميرة ارتضت أن تعيش كبقية الناس وخصصت وقتا وجهودا لخدمة المرضى برغم متاعبها العائلية، وراحت ضحية الجميع، وخاصة ضحية فئة نزقة من فئات الصحفيين. وأن يقدم ويليام خاتم أمه لخيبته هدية زواج، كان له أكثر من مغزى ومن بعد و تأثير عاطفي على الحدث.

سمعت وقرأت من يتحدثون عن الاحتفالات بعدم رضا، وحتى باستنكار، بحجة تكاليفها المالية في وقت عصيب، متحدثين عن quot; البذخquot; وquot;الأبهةquot; والمغالاةquot;، ألخ. ولكن لماذا هب مليون لندني برمته للاحتفال، ومنهم من باتوا في العراء قبل ليلة، أو ليال، مع أنهم هم يعانون مشاكلهم المعيشية والحياة الصعبة، وهم لم يفكروا في المصاريف الكبيرة، وإنما جاءت المناسبة ليعلنوا اعتزازهم بكونهم بريطانيين وليشعروا بوحدة المصير، رافعين أعلام بلادهم وصور الملكة وحفيدها وخطيبته، ومطوقين بها الأجساد، ومقيمين الحفلات الشعبية في لندن والمدن الأخرى - هذا، مع أن الاحتفالات جاءت معها بريع مادي مناسب للمصانع وأصحاب وعمال الفنادق ومؤسسات السياحة وأصحاب الحوانيت والمقاهي وسواق التاكسي وشرائح أخرى من الناس.

أجل، من اللذة والفرحة أن نشارك فرحة شعب بكامله، ومن النشوة أن نعيش من بعيد مهرجانا سعيدا، ونحن نسمع كل يوم أخبار الكوارث الطبيعية والبشرية والصعوبات المتزايدة وأعمال التفجير في العراق وباكستان وأفغانستان وعربدة إيران، واستهتار طغاة عرب يسفكون الدم يوميا، كما، خاصة، في سوريا وليبيا، واستمرار حمامات الدم في اليمن. ومن المثير للإدانة أن يبادر الإرهاب الإسلامي مرة أخرى، وفي نفس هذا الوقت بالذات، لقتل الأبرياء في مراكش وأن يحاول ارتكاب عمليات إرهابية في مدن ألمانية لولا اعتقال بعض أفراد الخلية، بعد أن رأينا سمعة العرب والمسلمين تتحسن بعض الشيء في الغرب بسبب الانتفاضات الثورية العربية، التي لا تزال في دور الهيجان، والتي نأمل أن تنتهي بنتائج سعيدة، أي بأنظمة مدنية علمانية تجسد الحرية وسيادة القانون والبناء والمساواة والعدالة والعمل والازدهار.

إنها لسعادة أن نندمج في فرحة شعب آخر، وأن ننسى، ولو لبضع ساعات، سفك دماء السوريين والليبيين والعراقيين واليمنيين، وهوس الانتقام وجرائم وتخريبات الإسلاميين في مصر دون ردع حكومي، وأهوال العالم الطبيعية: من الكارثة اليابانية إلى أعاصير أميركا؛ مثلما عشنا، بتضامن ولهفة واعتزاز بالإنسان، مراحل إنقاذ عمال المناجم في تشيلي، بعد أن شاركنا عائلاتهم وزملاءهم القلق حين وقعوا في أسر الظلام.

إن الملكية البريطانية الدستورية- [التي لا تحكم]- لا تزال شعبية، مجسدة استمرار الوطن والشعب والاستقرار والشعور بالأمان. والقضية ليست مفاضلة بين النظام الملكي الدستوري وبين النظام الجمهوري، فالمسألة هي طبيعة المؤسسات والمبادئ والقيم التي تسيرها والمجتمع. وبريطانيا بلا دستور مكتوب، ولكنها الدولة ذات الديمقراطية الأكثر تأصلا. ومع أنه ليست في بلجيكا لحد اليوم حكومة منتخبة بعد عام على الانتخابات، فإن الملك، الذي يحترمه الجميع، هو الحكم وضمان الاستمرارية والاستقرار. وعندما زار الإمبراطور والإمبراطورة اليابانيان مواقع الكارثة، فإن تلك الزيارة ساعدت على رفع معنويات المنكوبين وعلى الأمل في المستقبل والثقة بالنفس وبالنظام، وهذه حالة لا تعرفها الصين ولا تستطيع فهمها! ونعرف أن الجمهوريين الأسبان قد دافعوا عن الجمهورية التي كانت قائمة ضد عدوان فرانكو والفاشية والملكيين عامي 1936 و1937 في حرب أهلية شهيرة، غرقت بالدم. وراح فرانكو في تغير سلمي للسلطة وحكم جمهوريو أمس، ولكنهم أبقوا على الملكية، بل وأبقوا حتى على حزب فرانكو بعد أن تغير نجو القبول بالعمل السياسي الدستوري. وتدل الاستفتاءات على أن غالبية الشعب الأسباني تفضل الملكية على عودة الجمهورية. وكما يكتب صحفي فرنسي، فإذا لم تكن الملكيات الدستورية تمتلك السلطة، فإنها تمتلك، أحيانا، قوة سحر خاصة توحد من حولها الشعب.