في الموسم العربي الساخن الفائر، نرى اختلاط الأوراق، وخروج المفاهيم السياسية عن مضامينها، كما نرى حدة ملحوظة بين الثوار تجاه حاملي الرأي الآخر، وربما لحد الاتهام بالعداء للثورات أو بضحالة التفكير. وعندما يتحدث شيخ، كان يوما ما من الثوريين ومن دعاة الثورات، مبديا ملاحظة انتقادية، ورأيا يبدو غريبا وسط جيشان العواطف، فقد يبادره أحد لصفعه بكلمات quot; اخرس.. لماذا لا تلتزم السكوت يا عجوز؟؟quot; وهذا ما حدث بالفعل لصديق لي من الكتاب الموصوفين بquot; الشيوخquot;. وإذا كان قد يصدر عن شيخ ما شيء يراه آخرون هراء، وقد يكون هراء، فهناك، من الجهة الأخرى، مثل فرنسي يقول: quot; أشهى أنواع المرق والشوربة هي التي تطهى في الطناجر القديمةquot;! ومعذرة لزميلي الشيخ من ضرب هذا المثل.

وقد قرأت لكتاب آخرين هذه الأيام ملاحظات مماثلة عن ضيق صدور بعض شباب الانتفاضات والكتاب المتحمسين بالملاحظة والرأي المخالف، خصوصا عندما يقال مثلا إن الشارع ليس هو الشرعية الديمقراطية، حتى وإن جاء رئيس للوزراء وقال لهم العكس، micro;شرعيتي من الشارعquot; كسبا للشعبية.. وهكذا إن قال كاتب ما إن الثورة ليست مجرد quot; ارحلquot;، وquot;ليحاكمواquot;!؛ أو إذا جرى التنبيه لطول طريق التغيير ويجب أن يكون تدريجيا وبطيئا، وأن نقبل، خلال مراحل الطريق، بحلول انتقالية وسطية، عند الضرورة، تفاديا للصدام أو للانتكاسة؛ أو قيل إن الهدم أسهل من البناء، والبناء ليس مهمة الشارع بل مهمة النخب المجربة والكفء والنظيفة في المؤسسات الحكومية وكل مؤسسات الدولة. وليس صحيحا، في اجتهاد quot; شيخquot;quot; مثلي، أن ندين الماضي كله ونعتبره صفرا. ولو عدت شخصيا للمقارنة بين العهد الملكي في العراق وبين العهد الحاضر، لاعتبرت الأول محطة متقدمة جدا برغم كل المساوئ والسلبيات ورغم أن كثيرين منا قد عانوا سجون ذلك العهد، وإن كانت سجونه نفسها أقل قسوة من سجون ومعتقلات صدام والمالكي، العلنية منها والسرية!! ولو نظرنا إلى لبنان أمس ولبنان اليوم، فأية فوارق كبرى، حيث كان لبنان بلدا للإشعاع الفكري والثقافة والسياسة شبه السلسة ومأوى اللاجئين السياسيين. واليوم صار تحت هيمنة سلاح حزب الله والنظامين السوري والإيراني، وإن مؤسساته شبه عاطلة. ويمكن القول، بلا حذر أو خوف من الاتهام، بأن عهد مبارك الطويل شهد إصلاحات ونهضة اقتصادية ومساحة من الحرية [ توقف الأستاذ سامي بحيري عندها في مقاله الأخير]. وهذا يجب عدم طمسه وإن الاعتراف به لا يقلل من مسئولية مبارك عن الفساد والتشبث بالسلطة والتزوير المروع لآخر انتخابات. وهكذا أيضا مع عهد بن علي. والمأزق الذي أدخل فيه النظامان المذكوران، الفرديان والفاسدان والشائخان، نفسيهما والبلد والمجتمع، هو أن سقوطهما فتح أفاق تطورات منها، خاصة، أفق هيمنة الإسلاميين على البرلمان والحكم تدريجيا، فضلا عن الشارع المكسوبة معظم شرائحه أصلا . وهذا الخطر هو أقرب في مصر اليوم منه مما في حالة تونس برغم نشاط إسلامي تونسي يومي متصاعد، وفي ازدياد مستمر، وبتحدي. إن الإقرار بمثل هذا الاحتمال ليس للتخويف من فزاعة ما، وليس للانتقاص من ثورة أسقطت ذاك النظام وهذا، فسقوطهما كان محتما وهو بحد ذاته تحقيق لعدالة التاريخ. فمن المقلق جدا ما يجري اليوم في مصر من مظاهرات السلفيين وكل المتطرفين الدينيين والاعتداء المستمر على الأقباط وكنائسهم وبيوتهم [في قنا خاصة] والاعتداء على مراقد الأولياء من دون أن نجد ملاحقة أمنية وقضائية صارمة وفورية. فهؤلاء هم،كما وصفهم أحد كتاب صحيفة الأهرام، quot;بلطجية باسم الدين.quot; أما الإخوان، فقد كشف زعيم لهم حقيقة أهدافهم ونواياهم بالإعلان الصحفي عن العمل لنظام الشريعة وإقامة الحد. فهل من أجل هذا قامت ثورة الشباب الحر؟

أن الثورة ليست مجرد تحقيق شعارquot;ارحلquot; وquot;اسجنquot;، بل ويجب اقتران ذلك ببرنامج واضح من أجل البناء على كل الأصعدة، والبناء يكون تدريجيا وبطيئا- مما ينفي مشاعر ونزعات الارتجال وفقدان الصبر وشعار quot;فورا، فوراquot;!ا، كما يتطلب الاستقرار وضمان امن المواطنين البلاد.

الحالات العربية الراهنة متنوعة. ففي ليبيا، هناك مأزق للجميع: للقذافي وللثوار المسلحين وللناتو ولمجلس الأمن. وبعد أن كان الثوار يكتفون بالمظلة الجوية، فهاهم يريدون قوات برية غربية برغم أن هذا مخالف لقرار مجلس الأمن، وبرغم أن الغرب سوف يعرض نفسه فيما بعد، لو فعل ذلك للتحامل والتهجم من كل الشارع العربي نفسه بتهمة quot;الاحتلالquot;- كما جرى مع أميركا، التي صار حتى قسم من المعارضة العراقية السابقة، التي طلبت الحرب، تواجهها بالاتهامات والتوتر. نعم، القذافي يجب ان يرحل، ولكن كيف؟ ومتى؟ والمدنيون يجب أن يحموا، ولكن بشرط وقف القتال من الطرفين لا من جانب القذافي وحده. فما الحلول الواقعية والتي يمكن أن تلبي، على الأقل، تحقيق الحد الأدنى الممكن من وضع يخدم الشعب الليبي ويمنحه الحرية والعمل ويضمد جراحه؟ هل ثمة حلول وسطية مرحلية؟ ولكن الثوار لا يقبلون بغير رحيل القذافي وأولاده. فكيف ستحل القضية سياسيا إن لم تحل عسكريا؟ ثم هل يجب تجاهل خطر القاعدة القريبة من ليبيا، والتي يبدو أن لبعض كوادرها نشاطا في الثورة. وكانت إيلاف قد نشرت تقريرا عن نشاط الجماعة الإرهابية الليبية الملتحقة بالقاعدة، وكيف أن عددا كبيرا من الإرهابيين الليبيين ذهب للعراق للتدمير، وكان العدد بنسبة 20 ndash; 21 بالمائة من مجموع الإرهابيين المتسللين، وأن مدينة درنة في الشرق الليبي أرسلت وحدها إرهابيين للعراق أكثر مما أرسلتهم مدينة الرياض- علما بأن عدد الإرهابيين من السعوديين كان هو الأكبر. هذا خطر يؤخذ بالنظر ودون أن يعني ذلك أن رحيل القذافي ليس هدفا مطلوبا.

وحالة اليمن مستعصية أيضا. هنا أيضا ترفض المعارضة أي حوار قبل رحيل الرئيس، وهنا أيضا هناك خطر ازدياد نفوذ القاعدة القوية أصلا في البلاد. فهل من حلول وسطى بين تعنت الرئيس اليمني والإصرار على quot; ارحلquot; أولا؟ يبدو أن مساعي دول مجلس التعاون الخليجي لم تنجح بعد.

أما الحالة السورية، فسخونتها في تأجج برغم بعض خطوات النظام الالتفافية. والملفت خروج المظاهرات من المساجد وهو ما يستدعي النظر. ومع ذلك فيجب دعم هذه المظاهرات لإجبار النظام الشمولي السوري على تحقيق إصلاحات سياسية جذرية وحازمة، وإلا فهو الترحيل. وما يبدو هو أن النظام السوري الذي يحسن اللعب لم يستوعب الدرس تماما!

في جميع هذه الانتفاضات [أو الثورات ] لم يقدم مشعلوها الأوائل، الشباب، برنامجهم المدني الواضح للحكم البديل، وفي المقدمة فصل الدين عن السياسة، والإصرار على دولة مدنية ذات مرجعية حقوق الإنسان والمثل الديمقراطية، لا مرجعية إسلامية كما يريد القرضاوي وإخوانه والسلفيون؛ كذلك الإصرار على مساواة الجنسين، والحرية الدينية الكاملة، ومبدأ المواطنة. وبدون الالتزام بهذه المبادئ الأساسية، فإن كل حديث عن الديمقراطية يكون تلاعبا بالألفاظ وخدعا للذات!